من سيرة المدن الضالة
(أنا صوتي منكَ.. يا بردى)
يقولها شاعرٌ ويترك للنهر أن يخطّ سيره بطيئاً في سائر الوقت، وهادراً في القليل منه…
مدينةٌ بلا نهر، هي مدينة بلا صوت، وكأنها من خريره تستمد الأغاني والقصائد والتواريخ المخبأة، التواريخ التي لم تروَ خوفاً أو طمعاً، لكنها بقيت في ذاكرة جمعية لا تتعب، لم يمسسها قرح، ربما بفضل عذوبة نهرها، مدينة ضالة تغرق في الغبار تلك المدينة التي تلتفت حولها فلا تجد نهراً يسميها وتسميه، يلقنها هو صبر الوصول إلى الينابيع، وتلهمه هي نبل الانتهاء في بحيرة مغلقة تختم مغامرة الماء تراباً يروى ويعيد رواية الحكاية، مدينة ونهر يشربان من كأس الحياة حتى الثمالة كنديمين لا يعرفان الوداع.
كما أن لكل عاشق حباّ أول، لكل مدينة نهرها، الفرق الوحيد أن الحب الأول يبقى ماثلاً في الروح، على اعتراف الشاعر (نقّل فؤادك حيث شئت من الهوى / ما الحب إلا للحبيب الأول) لكنه يخلي مقام القلب لحب آخر وتالي ورابع وخامس إلى ما شاء القلب.
في المدن والأنهار لا نهر أول للمدينة، لأنه لا آخر، لها نهرها الوحيد، تدلّله لأنه وحيدها، تخبئه عن أعين الحساد، تقصد المشايخ والسحرة لتكتب له الأدعية والحجابات وتوزع الأضاحي، لربما تدفع عنه نوائب الدهر والناس.
كيف يخبئ شاعر ربيعاً بكامله في نهر يلفظ أمواهه الأخيرة؟
(لي ربيع فيك خبأتُه) يعترف العاشق المجنون وهو يلهج بذكر بردى، الذي منه وإليه تنتسب دمشقنا الباقية حتى ما بعد الأبد.
لكنه الشاعر وصوت فيروز الذي أكاد أقول إنه يقصده تحديداً، حين ينسب صوته إلى بردى، بالعذوبة ذاتها ينساب صوت الفيروز كنوافير معرض دمشق الدولي حين كان على ضفاف النهر، وكان أحد معالمه صوت فيروز يترجم قصائد عقل إلى تراتيل لا ترتوي منها الروح، كلما ارتشفَتْ منها رشفة ردّدت مع الحلاج: (لم يزدني الوِردُ إلا عطشا).
في هذا الفج المتروك بين جبلين يبوح نبع خالد بمائه إلى الغوطة، والترجمان شآمية، بل (لحظ شآمية رقّ حتى خلتُه نفدا)…
دمشق الآن كما كانت، زمن الفرح والأغاني و(سيارين) الغوطة ووادي بردى، دمشق و(أهلُها على نوب) يصبح قلب القصيدة كقلوبنا كلنا (على نُوَبِ)، لكنها مع كل هذا الحزن تفرد جديلة للآتي، وتبوح بسرّها لقاسيون المتعب من تردد الموت على جنباته: (ثلج حرمون غذانا معاً/شامخاً كالعِزّ في القُبَبِ).
كيف تكون مدينةٌ مكلومةً مفجوعة بأبنائها الذين يتسابقون إلى هدم ما بنته أيدي الدمشقيين منذ أول إنسان وجد في قاسيون خاتمة لفاجعته؟
وقف الأخ القاتل أمام جثة أخيه القتيل بيده وبكى، فقيّض له الجبل بمشورة من النهر والعنادل والصفصاف وشجر الغوطة من يدلّه على دفن الحقد والحزن في عمق هذا التراب، والذهاب إلى حيث الحياة تنادي، إلى الخضرة والماء والوجه الحسن، وجه دمشق الذي لا يخبئ جماله حجاب أو ظلام مهما بلغ من سواد، وخضرتها الممتدة من أقصى الشمال إلى عمق الجنوب، ومائها السلسال الذي منه صوتي (مثلما نبعُكَ من سحبي)
منذذاك وهذا التراب يبكي فتصبح دموعه ينابيع، التراب الحزين يبكي فيعده السحاب بالمزيد، وتلبس دمشق ثوبها الزاهي كل ربيع لتعلم الفصول أصول الورد…
هكذا، من بكاء تبتدع المدينة لكنتها الخضراء، تودع الحزن والإخوة الذين ماتوا بيد إخوتهم، تمسد على رؤوس اليتامى والثكالى والمشردين الهائمين في شوارع المدينة وحدائقها وعلى أرصفتها النائمة، تلمّ (بقجة) الحزن، ثم بصوت يشبه الفيروز تناديهم: (وحّدَ الدنيا غداً جبلٌ/لاعِبٌ بالريح والحقب)، فكيف لا يوحّدكم؟! كيف؟
دمشق يا ضلالي المزمن، يا هديي الجميل….
بردى يا يقيني الراسخ، يا شكّي العذب…