الخوف من الجوع.. أيّ عـمـل؟

 إذا أردنا الحديث عن الوظائف نلاحظ أن المواطنين مازالوا يفضلون الوظائف الحكومية التي كان يُسمى من يحظى بها بأصحاب الدخل المحدود، واليوم باتوا من أصحاب الدخل(الفتفوت). وإذا تساءلنا لماذا يفضل الناس الوظائف الحكومية على وظائف القطاع الخاص سنجد المثل الشعبي(شو يلي جابرك ع المُر.. قال: يلي أمرّ منّو) يختصر المسألة.. فلو كانت القوانين السورية الناظمة للعمل لها هيبة الحضور على أرض الواقع، لما سعى الناس للوظائف الحكومية طمعاً بالضمانات التي تقدمها من تأمينات وتعويضات ورواتب تقاعدية وإجازات منصفة، ولأنها لا تخضع لمزاجية أرباب العمل. ورغم تدني الأجور في القطاع العام بسبب الأحداث وتدني سعر صرف الليرة السورية مقابل العملات الأخرى، أتوقع استمرار إقبال الناس على الوظائف الحكومية خاصة أن عدداً ليس بالقليل من أرباب العمل وأصحاب المشاريع الخاصة اليوم هم من الأنذال(تجار الأزمة) عديمي الضمير، وحتى الشركات الأجنبية التي ستدخل البلاد لن تدفع أجورا مجزية، فالجميع يعلم أن اليد العاملة الرخيصة بعد الحروب والطمع بالثروات الباطنية هي مغريات شكّلت الدافع الأساس لإذكاء نار الحرب والفتنة.

وإذا أردنا الحديث عن القطاعين الخاص والعام عموماً، نجد أن الشركات السورية والمصانع وحتى التجار حققوا ريادة وصيتاً حسناً على مستوى إقليمي قبل الحرب، ذلك أن عمر العقل التجاري السوري بعمر التاريخ لا بل ما قبل التاريخ، فنحن في بلد يضم مدناً من أقدم مُدن العالم.. وأما القطاع العام فهو يمتلك مخصصات مالية سنوية وثروات وأملاكاً منقولة وغير منقولة لا تقلُّ عمّا يمتلكه القطاع الخاص، لكن الفساد وسوء الإدارة يجعل القطاع الخاص متفوقاً بمراحل، فمازلنا إلى اليوم نقرأ في الصحافة خبراً عن حريق في أحد مستودعات مؤسسة من مؤسسات الدولة بسبب ماس كهربائي!!(يخرب بيتو علماس الكهربائي يلي من وقت ما وعيت علدنيا مالاقيتولو حل!! آه صحيح هو الحل تبعكن لتغطية النقص).

إن الفساد المتسبب بإجهاض إمكانيات تلك المؤسسات في تحقيق الأرباح والريادة سينعكس على العاملين فيها، لأنه ينعكس على مخصصات الحوافز والمكافآت التي تعتبر حافزاً مُهمّاً في أنظمة العمل الحديثة للهيئات والمؤسسات حول العالم، ولكي نُعبّر عن المفارقة بمثال واقعي سنقدم هذا المثال.. قبالة الهيئة العامة لمستشفى دمشق (المجتهد) هناك تجمع هائل للمخابر والعيادات الخاصة، وهناك بناء ضخم عند تقاطع الطرقات على مسافة قريبة جداً لمستشفى قطاع خاص يتمّ إعداده (مستشفى قطاع خاص قبالة مستشفى شبه مجاني!!) هذه يجب أن تكون لوحة يفترضها برنامج ساخر وليست جزءاً من الواقع.. وهذا أشبه بمن يبيع الماء مقابل ينبوع مجاني واستمرار الباعة وتكاثرهم وازدهار تجارتهم دليل في حدّ ذاته ومؤشر على عدم نقاء ماء الينبوع وعلى وجود مشكلة فيه.

القطاعان الخاص والعام ليسا في حالة تكاملية تنهض بالطاقات الوطنية، بل دور القطاع العام ذابل وباهت بسبب الفساد، والقطاع الخاص ينتفخ ليملأ الفراغ ويستوعب الطاقة الإنتاجية العالية لمجتمعنا المعطاء والفتي، ولكن حتى القطاع الخاص يمكن أن يرتقي ويتطور ويُحسّن أوضاع عامليه إذا ارتقى أداء القطاع العام.

ماذا يمتلك القطاع الخاص حتى تفوّق على القطاع العام؟

ليس ذكاء الإداريين هو ما يُحدث الفارق وليست كفاءاتهم.. فالقطاع الخاص ملك لأناس معظمهم ليسوا من أصحاب الشهادات الدراسية الجامعية ومعظمهم يساهمون بشكل كبير في إدارة شركاتهم.. إن السبب ببساطة هو قدرة المسؤول في القطاع الخاص على اتخاذ قرارات جريئة والمجازفة والسعي لقفزات نوعية، وهي ما يفتقد إليه إداريو القطاع العام باعتقادي، فهم يريدون أداء المطلوب على مقاس ما يريده المسؤولون الأعلى، كي يتم ترفيعهم إلى مناصب أعلى ولا يجازفون خوفاً على الكرسي الذي يطمع فيه الطامعون، وفي الكثير من الحالات يخشى المسؤول أن تُنسب جهوده ونجاحاته إلى المسؤول الأعلى وكذلك الموظف الحكومي.

باختصار عمل المؤسسات الحكومية نمطي في معظم الأحيان لأنه مرتبط في سيكولوجيا العاملين فيها بمسائل نمطية كتحصيل مقومات العيش الرئيسية، والمؤسسة مستمرة بكل الأحوال. أما في القطاع الخاص فالفشل قد يعني زوال العمل وانتهاءه ممّا يجعل العاملين أكثر حرصاً.

وتبقى الكارثة الكبرى هي في تقدم العديد من خريجي الجامعات إلى مسابقات الوظائف الحكومية المطروحة لحملة الشهادات المتدنية، وبالتالي هدر هذه الطاقات العلمية والمعرفية.. وختاماً الفساد يحتاج غطاء من النمطية والتكلّس، فهو استنزاف للطاقات العامة لصالح أفراد، بينما النهوض والريادة تقتضيان استثمار للطاقة العامة وبالتالي هما نقيضان.

العدد 1140 - 22/01/2025