الأدب النسوي بين المحاباة والقسوة
ربما لم يكن العقاد الكاتب الوحيد الذي آثر أن يحابي كتابات النساء، ففي الصالون الأدبي الذي أقامته مي زيادة كان يجامل الكاتبات ولا ينقد نصوصهن بأمانة. ويقول الناقد عبد الله الغذامي في كتابه (المرأة واللغة) إن العقاد لم يتعامل مع مفهوم المرأة الكاتبة، بل مع مجرد (دمية ثقافية) لأنها ـــ برأييهما ـــ (حريم ثقافي).
اليوم، بعد عقود من الزمن على العقاد، نلاحظ أن التغير في المنظومات الاجتماعية العربية لم يفرز التغير المأمول في نظرة الرجل الكاتب إلى النص الأنثوي، ونستعمل هذا المصطلح هنا مجازاً، فالكثير من الصفحات الأدبية في وسائل الإعلام الورقية والإلكترونية تنضح بقطرات المحاباة التي لا تستسيغها الكاتبات الجادات.
اليوم، هل تحرر النقد الأدبي النقدي العربي من النظرة السطحية أو الدونية إلى أدب المرأة؟ وإلى ماذا يحتاج هذا الأدب كي يتم نقده كمنتج بمعزل عن الصفات الشخصية لكاتبته؟
احتكار الأدب
بيانكا ماضية، (رئيسة القسم الثقافي في صحيفة الجماهير، من إصدارتها رواية (هو في الذاكرة) ترى أن نظرة النقد السطحية أو الدونية إلى إبداع المرأة نابع من الإدراك والفهم غير العميقين للنص الأدبي وللمرأة ولإشكالية العلاقة بين الرجل والمرأة وبين ما ينتجه كل منهما، ونابع أيضاً من طبيعة التفكير ومن ثقافة الناقد. وتتابع: وما التصنيفات التي انشغل بها النقاد إلا بسبب ذاك التراجع المخزي للأدب، فاهتموا بالتصنيفات الهشة التي غايتها إثارة موضوعات فقيرة سطحية لإبعاد التفكير عن الفشل الحقيقي الذي تعيشه الأمة العربية. وإذا أردنا الانصياع لهذه التصنيفات في الأدب أو القبول بها فلمَ لا يعتمد هذا التصنيف في كل العلوم الاجتماعية والطبية والفلسفية والفنية وغيرها.. ولمَ في الأدب فقط؟ هذا التصنيف الذي أطلقه النقاد على الأدب الخاص بالمرأة نابع من البحث عن صفة تطلق على أعمالها، لمحاولة إظهارها والتأكيد على وجود كاتبات عربيات لا غير، لا بسبب اختلاف الأدب الذي تكتبه المرأة عن الأدب الذي يكتبه الرجل، وأرجع هذا الأمر إلى طبيعة التفكير الشرقي والمجتمع الذكوري، وهذا ما شجع إصرار المصنفين النقاد أيضاً على وجود أدب خاص بالمرأة ليحافظوا على احتكارهم للأدب بصيغته الذكورية المعروفة.
يحتاج الأدب (النسوي) إلى أن ينظر إليه بوعي وبإدراك وبأنه أدب إنساني، لا أدب نسوي وأدب ذكوري، وإلى إعادة النظر في كل حقوق الإنسان وفي البناء الاجتماعي للذات، وإلى إعادة قراءة النقد الأدبي الذي كتبه الذكور وإعادة قراءة التراث الأدبي التقليدي بحد ذاته.
سطوة الأنوثة
عبير سليمان (شاعرة صدر ديوانها الأول (رسالة من بيدق ميت) مؤخراً، ونشرت نصوصها في عدد من المواقع الإلكترونية والجرائد داخل وخارج سورية)، تأسف لأن النقد الأدبي العربي لم يتحرر من النظرة المتحيزة وربما الحكم المسبق في بعض الأحيان تجاه النص الأنثوي. وتضيف: مازال هناك نوع من المبالغة أو القسوة أو الذكورية حتى يمارسها البعض في التعامل مع النص الأنثوي. لاحظت هذا غير مرة أثناء قراءة بعض الآراء حيال عدة نصوص هنا وهناك، حتى أني فوجئت مرة حين قرأت اقتراح أحد الشعراء يطالب النساء بالتوقف عن كتابة الشعر، والغريب أن هؤلاء الأشخاص الذكوريين لا يقيّمون نصوص الشعراء الرجال وفق نفس المعايير التي يقيمون بها نص المرأة مع أن كليهما إنسان ولهما حرية التعبير، فكلاهما يبكي ويفرح ويعشق ويغضب. لكن يؤخذ على المرأة وحدها إن ظهرت بعض الدموع في نصها، ولا يؤاخذ الرجل أبداً على أمر كهذا، على سبيل المثال.
في المقابل أظن أن بعض الكاتبات نحين منحى مختصاً بالكتابة الأنثوية غير المعنية بالإنسان بل بحاجات الأنثى فقط، ومشاعرها ورغباتها، بحيث تشعر بالنص المكتوب المرأة القارئة فقط، وهذا ما يجعل النص قاصراً أو الكتابة المختصة بأمر كهذا مشروعاً سريع الانطفاء. الكاتبة الناجحة هي من تكتب كإنسان بالمطلق بمعزل عن سطوة أنوثتها على الكتابة، وكل كاتب بشكل عام ينبغي أن يعبر بعمق عن كل ما يلهج داخل الإنسان، أن يكون صوتاً للإنسان بغض النظر عن جنسه ذكراً أو أنثى، وأن يقدم نصاً من فكرة وإحساس وصورة تثير اهتمام جميع القراء ، تجذبهم وتجعلهم يتفاعلون معه. إذاً، الأمر يحتاج إلى التطوير من قبل الرجل الناقد والمرأة الكاتبة، وقد يأتي هذا مع الوقت حين يحصل تطور حقيقي في مجتمعنا، تطور ثقافي ينجو بالإنسان من الموروث الاجتماعي المحكوم بشرقية تطغى على الحكم بموضوعية. لنتأمل قليلاً ونتساءل: لماذا لمعت أسماء شاعرات غربيات على مستوى العالم وليس لدينا حتى الآن شاعرة استطاعت الوصول إلى العالمية كأخماتوفا وبلاث وفرخزاد؟ أظن أن الرجل والمرأة في بلادنا مسؤولان عن تقصير كهذا.
المحاباة طريق للتقهقر
نادية الأزمي (كاتبة مغربية لديها مجموعة قصصية قيد الطيع ومجموعة حوارات مع روائيين عرب)، قالت: إن الأدب منتوج إنساني والكاتب سواء كان ذكراً أم أنثى هو صوت الإنسان، فكونية الأدب وحضوره الإنساني يفرضان على الآخر أن يتعامل معه من هذا الجانب بعيداً عن الشخصنة. فما بالك بالنقد الأدبي الذي يجب أن يعمل على الرقي بالأدب بتقديم النقاط المضيئة مع تسليط الضوء على الهنات، إن وجدت!
لسنا هنا ننكر وجود الشللية التي تفضي إلى المحاباة في الكثير من القراءات التي تطالعنا اليوم منشورة على أكثر من منبر، خاصة بعد الطفرة النوعية التي أحدثتها المواقع الإلكترونية وما تقدمه من إمكانية النشر والانتشار، الأمر الذي لا يخدم الأدب من بعيد أو قريب..
أعتقد أن هذه الظاهرة ليست لصيقة بأدب المرأة ــ وأنا ضد تصنيف الأدب على حسب الجنس ــ، وإن كانت تبدو أكثر وضوحاً حين يتعلق الأمر بالمرأة حيث نجد المبرر لكل ما لا نتقبله في قراءة ليس لها من النقد إلا الاسم.
أستطيع القول إن بعض النقاد يحابون المرأة كما الرجل على السواء، وللأسف لا يقدمون خدمة للأدب بقدر ما يعملون على تقهقره… ثم إن المبدع الذي يرضى لنفسه مثل هذا النقد المبني على العلاقات وتلميع صورته، لا يمكن أن يتقدم مادام هدفه الشهرة على حساب الإبداع. وعليه فهذه النظرة السطحية للأدب تدق ناقوس الخطر وتجعلنا نفتح أكثر من قوس عن الهدف الحقيقي من الكتابة.
لا جنس في الإبداع
وأخيراً توجهنا إلى الناقد الدكتور يوسف حطيني لمناقشة هذه القضية فقال: تقتضي الأمانة العلمية أن نميز بين النقد الصحفي والنقد الأكاديمي الذي يوجه لأدب المرأة، فالأدب الأكاديمي أقل انغماساً في هاوية النظر إلى الأدب من خلال ذكورته أو أنوثته، وتعود المشكلة في أساسها إلى عدم تسمية الأشياء بمسمياتها: فعندما نسمي المقاومة مقاومة والإرهاب إرهاباً والجمال جمالاً تنتهي المشكلة، عندما أرى قاصة بارعة الجمال يجب عليّ أن أقول لها: ما أجملك! وحين أقول لها: ما أجملك! قصتك فأنا أخدعها وأخدع نفسي، وعندما أستمع لهمس شاعرة ممشوقة القوام يجب أن أنشد لها: (قدك الميّاس يا عمري) وما عدا ذلك نفاق وكذب. حين أبدي إعجابي بقاصة أو شاعرة فيجب أن أسوغ وجهة نظري بالحديث عن الحكاية والشخصية والصورة والرمز والإيقاع وغير ذلك. والوجه الآخر للهاوية التي نحن بصددها تتمثل في الأديبة التي تقبل الآراء التي تجاملها، وترفض الآراء المخلصة التي تنتقدها وتبتغي الرفع من شأن أدبها (لأن القاصة أخذت جائزة من المسابقة الفلانية، أو أنها حازت رضا الناقد العلامة فلان) فهي ليست بحاجة إلى نصائح من أحد وها هنا يجب أن تتنبه الأديبة التي تقبل المجاملات التي لا أساس نقدياً لها، أن هذه المجاملات لا تحمل لها أي تكريم، بل ثمة امتهان كبير لإنسانيتها في ذلك.. ويجب أن تنتظر من النقاد أن يكتبوا عن أدبية النص الذي تكتبه لا عن أنوثتها، لأن الإبداع لا جنس له، يكتبه مبدع: لا ذكر ولا أنثى، وفي جميع الأحوال فإن المبدع، ذكراً كان أم أنثى، قادر على إثبات إبداعه، إنه يخطو بثبات، ليتعلم منه النقاد ويطوروا نظرياتهم.