الجولات الميدانية تفتح أبواب كبار المسؤولين المغلقة

تحقّق مطلب شعبي قديم، بالحاجة إلى مسؤولين ميدانيين في متابعاتهم للعمل، يبتعدون عن مكاتبهم الفارهة، وحاشيتهم التي تبجّلهم، وتكيل لهم المديح على مدار الساعة. وعلى رأس الجولات الميدانية التي نفذت في الآونة الأخيرة، كانت جولات رئيس الحكومة، على عدد من المرافق العامة. الأهم في هذه الجولات أنها لم تسفر عن تغيير القائمين على المؤسسات، بل عالجت واقعاً صعباً، وساهمت في التقدم خطوات ملموسة، لفكّ شيفرة التجاهل التي يتبعها عدد كبير من المسؤولين. إذ ليس مهماً، تغيير المديرين العامين، وأن يُستبدَل بهم آخرون لا يملكون برامج عمل، رغم أن موجة التغيير التي يقودها خميس كبيرة، وتجري بهدوء وحذر شديدين.

تكشف هذه الجولات التقصير، تقف على مقربة من الخلل الحاصل، تجسّد تقارباً بين قيادات الصف الأول والمستويات الإدارية الأخرى، التي تملك الكثير من مفاتيح حل المشكلات المستعصية. كما ينتج عن هذه الجولات حالة ارتياح لدى متلقي الخدمات، أي المواطنين، تجعلهم على ثقة بأن ثمة من يعمل لأجلهم، ومن يسهر في سبيل مصلحتهم، وترسّخ علاقة مفتقدة بين الطرفين.

تبدو الحاجة ملحّة للجولات الميدانية لكبار المسؤولين، لأن المسؤولين الآخرين لا يعملون أحياناً، أو لحاجة ماسة إلى الاطلاع المباشر على القضايا، بعيداً عن التقارير الكاذبة لشرح واقع الحال، أو- وهو الأهم- لبثّ رسائل معينة، ليست بالضرورة أن تكون خدمية، بل ربما تكون سياسية. زار خميس مشفى المواساة، والمدينة الجامعية بدمشق، وتبعد هاتان المؤسستان أقل من 500 متر عن وزارة التعليم العالي، وهما تتبعان لها. ونعتقد جازمين، أن وزير التعليم العالي لم يزر هاتين المؤسستين، قبل رئيس الوزراء.

بالمسطرة ذاتها يمكن القياس على الزيارة الميدانية لمطار دمشق الدولي، ولمنطقة بساتين الرازي، اللتين أعقبهما اجتماعات تمخضت عن قرارات مهمة. هو أسلوب خميس في العمل، وهذا حقّه، لكننا أيضاً نتساءل: هل يثق رئيس الحكومة بالذين يديرون بعض المؤسسات؟ هل جولاته الميدانية تزكية غير مباشرة لهم؟ أم أنها لحظات تسبق التغيير؟ كل الاحتمالات واردة، فالهدف المباشر من هذه الجولات يتحقق، يكفي ما جرى في المدينة الجامعية بدمشق لنكتشف مدى الخلل الهائل الموجود الذي عمره سنوات، دون أن يكون ذلك محفزاً لمدير المدينة أو لرئيس الجامعة أو لوزير التعليم العالي على العمل بجدية. إصلاحات سريعة، خدمات مفقودة خُلقت بسرعة، وأشياء عديدة كان الجميع ينتظرونها لسنوات، أفلحت زيارة لمدة ساعات، وعمل أقل من أسبوع في معالجتها. إذا لم يأت الوزير لا يُشطف الشارع، وإذا لم يأت رئيس الوزراء لا يعمل المصعد، بينما تُرك عشرات آلاف الطلبة القاطنين في المدينة بلا خدمات. أمر معيب للغاية أن تجد من توكل له مهمة المتابعة يغطّ في نوم عميق، بينما لا يترك واحدة من وسائل الرفاهية.

في سنوات سابقة، منع محافظ دمشق أعضاء المكتب التنفيذي من الدخول إلى مكاتبهم من الباب المعتاد المفروش بالسجادة الحمراء، والمفضي إلى ساحة الصالحية، وفرض عليهم الدخول من الباب الخلفي للمحافظة. باب يدخله يومياً مئات المراجعين. احتجاج أعضاء المكتب التنفيذي آنذاك أتى باعتبارهم منتخبين، بينما المحافظ معيّن، ولا يحقّ له اتخاذ قرار كهذا، وغيرها من الأسباب التي لا تفيد شيئاً. طبعاً قرار المحافظ كان كيدياً، ورسالة واضحة لأعضاء المكتب التنفيذي الذين يخالفون أهواءه. تراجع المحافظ عن القرار، وعادت المياه إلى مجاريها عقب أيام. لكن أحداً من أعضاء المكتب التنفيذي لم يتحدث عن أهمية التجربة، ولم يلاحظ الحالة غير المنطقية لانتظار الناس على الأبواب، أو صعودهم الأدراج من أجل الحصول على خدمة معينة. نسوق هذا المثال، لأنه لا يوجد مسؤول في سورية بابه مفتوح، ولا يوجد مسؤول يتعاون مع المواطن، وثمة قطيعة رهيبة بين المسؤول والمواطن، وحالة قد تصل أحياناً إلى حد العدائية.

متى يقوم المسؤول بجولة ميدانية لإحدى الجهات العامة؟ ومتى يحق له ذلك؟ تصعب الإجابة عن هذا السؤال، لغياب المعايير. إذ لا يختلف الاجتماع المصغر، عن النوعي، عن زيارة العمل، عن الجولة الميدانية، بشيء. كل شكل من هذه المتابعة الإدارية، ينتج عنه قرار مختلف في عمقه وأهميته، لكن عندما تكون كل الحالات تتشابه في مخرجاتها، وأقصاها تعميم تصدره الجهة المعنية، تصبح هذه الحالات غير ذات أهمية، ولا تساوي ثمن المجهود والضخ الإعلامي الذي رافقها.

تحتاج البلاد الغارقة في الحرب، والدماء المجانية، والتي تتعرض للدمار، إلى (نفضة) إدارية تستهدف مستويات الصف الأول، وتعيين قادة إداريين، وليس مجرد مديرين عامين، أتوا بالتزكية من قبل الجهات التي لا يهمها مصلحة المواطن أو الوطن. نحتاج إلى القضاء على أساليب (التشبيح) الإداري، وإلى فهم عميق لمعنى أن يكون المدير العام والعاملون بإدارته في خدمة الناس. بالنتيجة، ما يجري ليس عملاً مؤسساتياً صرفاً، لكنه العمل على الطريقة السورية.

العدد 1140 - 22/01/2025