الرئيس بوتين وروسيا الأوراسية

 لا شك بأن تطوراً هائلاً في منظومة السياسات الدولية وتوازن القوى على المستوى العالمي أحدثته عودة روسيا الاتحادية إلى الساحة الدولية. أول هذه التطورات هو عودة السياسة الروسية الواقعية غير المبنية على أساس عقائدي كما كان الأمر سابقاً، لتتصدر، بذلك، المشهد الدولي مرة أخرى بعد عقود من الانزواء والتجاهل للشؤون الدولية، والتطور الثاني هو طغيان أهمية الصراعات الجغرافية – السياسية، على الصراعات الجغرافية – الاقتصادية في تحديد مصير مستقبل التوازن الدولي والعلاقات بين القوى الدولية الكبرى في النظام الدولي الجديد.

يتناول كتاب للمؤلف الدكتور وسيم قلعجية بعنوان (روسيا الاتحادية- زمن الرئيس فلاديمير بوتين)، الصادر عن الدار العربية للعلوم – ناشرون، يتناول تاريخ روسيا الاتحادية القريب على مدى ربع قرن، وذلك لفترة تمتد منذ انهيار الاتحاد السوفييتي السابق حتى اليوم، وقدم له وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف.

يتعرض الكتاب بشكل مفصل وموثق لعدة عناوين تمثل أهم المراحل في الفترة التي أشرنا إليها أعلاه، ومنها مرحلة سقوط الاتحاد السوفييتي وما بعده، ملابسات وصول الرئيس فلاديمير بوتين إلى السلطة، وتشكل مبادئ (البوتينية السياسية) عبر النظرية (الأوراسية)، عودة روسيا إلى ساحة الصراع الدولي والتوجه الروسي نحو آسيا الوسطى تكريساً للتحول نحو أوراسيا، بناء العقيدة العسكرية الروسية الجديدة، نتائج الصراع ومحاولة رسم ملامح النظام العالمي الجديد والتكتلات الإقليمية والتحالفات الدولية، أبعاد الصدام الجيوسياسي بين الأوراسية والأطلسية في جورجيا وأوكرانيا وسورية.

إذاً يتناول الكتاب مرحلة صعود الرئيس فلاديمير بوتين إلى موقع صانع القرار في روسيا الاتحادية، منذ توليه الحكم في عام ،2000 وطريقة إدراكه ورؤيته للصراع في منطقة أوراسيا. وانطلاقاً من كون المنطقة الأوراسية جزءاً لا يتجزأ من الأمن القومي الروسي والمصالح الوطنية الروسية المركزية التي لا يمكن التهاون بها.

يفسر الكاتب الأبعاد الاستراتيجية لمواقف روسيا الاتحادية في عدة أزمات مثل: الحرب في الشيشان، توسع حلف شمال الأطلسي في أوربا الشرقية، والدرع الصاروخية الأمريكية، الصراع في جورجيا، البرنامج النووي الإيراني، الأزمة الأوكرانية والتدخل العسكري الروسي في سورية.

ويحاول الكاتب استشراف مستقبل العلاقات الدولية بين القوى الكبرى في النظام العالمي الجديد، بناء على التطورات التي شهدتها الساحة الروسية منذ بداية القرن الحادي والعشرين، وكيف يُنظر إليها وإلى تبعاتها وتأثيرها على مستقبل النظام والتوازن الدوليين. كما يتطرق إلى العديد من القضايا المهمة الأخرى، ومنها على سبيل المثال: دور التكتلات الاقتصادية في تشكل النظام الدولي، وتطور رؤى الولايات المتحدة الأمريكية والصين وأوربا وروسيا الاتحادية للنظام الدولي.

وكما أشرنا في بداية الحديث، قدّم للكتاب سيرغي لافروف وزير خارجية روسيا الاتحادية قائلاً: (إن هذا الكتاب يُشكل محاولة لحكم محايد يسعى لسبر أغوار الفترة الأخيرة من تاريخ روسيا القريب ودورها ومكانتها في عالمنا المعاصر، كما يشكل مدخلاً إلى فهم المسائل والقضايا الرئيسية على جدول الأعمال الدولي.

اليوم، في ظل اتخاذ خطوات غير مسبوقة تسعى لتشويه سمعة السياسة الروسية وتشويه الصورة الموضوعية لبلدنا، قام المؤلف بعمل مهم ومكثف، معتمداً على المراجع الغنية والمصادر الوثائقية المتعددة.. بالطبع ليس كل ما ورد في هذا الكتاب من تحليلات وتقييم يعكس بالضرورة وجهة النظر الروسية.

اليوم تهتم روسيا بتوسيع علاقاتها المثمرة مع العالم العربي، دعم شعوب الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في سعيها إلى الازدهار والحياة الأفضل والوصول إلى المصالحة الوطنية والسلم الأهلي عبر تجاوز الخلافات والانقسامات الداخلية ومكافحة التطرف والإرهاب.

إننا في روسيا، نواصل العمل، وسنستمر، على تغليب التوصل إلى حلول وتسويات سياسية للأزمات التي تعصف بالمنطقة، سعياً إلى تعزيز وتمتين الأمن والاستقرار الإقليميين، مما يساعد على تشكيل أرضية صلبة من أجل تنمية مستدامة).

وهكذا يتبين من خلال مثل هذا الكتاب ومن السياسة التي ينفذها الرئيس الروسي بوتين على مختلف المستويات، بأن روسيا استعادت مكانتها الدولية بقوة، وهي لم تعد تسمح للولايات المتحدة الأمريكية بأن تنفرد بقيادة العالم وبحل المسائل العالقة فيه بما يتماشى مع مصالحها، أيضاً تسعى موسكو جاهدة إلى ضرورة احترام القوانين الدولية، وإرادات الشعوب في تقرير مصيرها بعيداً عن أية إملاءات خارجية، وهذه السياسة الروسية تلقى ترحيباً من غالبية شعوب العالم ودوله، خاصة منها الشعوب التي عانت طويلاً من الظلم الأمريكي لها.

العدد 1140 - 22/01/2025