بالدوين.. وغضب الإنسان المحاصر… قراءة في روايته «لو كان لشارع بيل أن يتكلم»

هل يتناسل الظلم لتبقى العدالة حلماً بعيداً عن معظم أبناء الكوكب؟ وكيف يستعيد المرء إنسانيته المستلبة دون صعود جبل (سيزيفي) أو اكتواء بآلام الجلجلة؟ وما مسؤولية الإنسان عن استرداد حقوقه في زمن يتسع فيه البؤس والعنف ويخلفان مخاطر أشد مما خلفته الحروب التقليدية؟

أسئلة شغلت بال الأديب الأمريكي الأسود جيمس بالدوين (1924 ـ 1987) الذي ولد في هارلم بمدينة نيويورك، وعاش في كنف زوج أمه القاسي، ولم يعرف أباه الحقيقي قط، وقد امتزجت في أعماله السيرة الذاتية البائسة بسيرة الظلم الاجتماعي، وحاول أن يفهم جور هذا الظلم، وأن يحلل أسباب غربة الإنسان المعاصر برغم تطور تقنيات الاتصال، وصدور تشريعات تضمن مزيداً من الحقوق للبشر.

غادر بالدوين الولايات المتحدة إلى أوربا وقضى عشر سنوات، واكتشف أن مواطني بلاده لم يكونوا أمريكيين حقيقيين بل كانوا أوربيين منبوذين، وشهد بالدوين مصرع مارتن لوثر كينغ، الزعيم الأسود (1968)، وشعر بالغضب، لكنه لم يفقد الأمل بقدرة الناس على العيش بسلام وكرامة، حينما يتحملون مسؤولياتهم بجدية وجرأة.

اشتهر بالدوين برواياته الغاضبة، وبمقالاته الجريئة حول حقوق الإنسان وحقوق مواطنيه السود الذين عانوا من تمييزاً عنصرياً قاسياً، وأصدر ثلاث مسرحيات ومجموعة قصصية وقصة للأطفال، ولاقت روايته الأولى (اصعد الجبل وتحدث عن ذلك) الصادرة عام 1953 رواجاً جلب له الشهرة.

ومن أعماله: (ناصية الحق) – ،1955 و(غرفة جيوفاني) – 1956 و(بلد آخر) 1962 و(النار في المرة القادمة) – 1963 و(الشيطان يجد عملاً) – 1976 و(فوق رأسي مباشرة) – 1979 وصدرت له أعمال ثقافية منوعة مثل (ثمن التذكرة) – 1985 و(مشاهد حول الفن الإفريقي) -1987 وقد قضى سنواته الأخيرة في الريفييرا الفرنسية وتوفي هناك في 30 تشرين الثاني 1987.

روايته (لو كان لشارع بيل أن يتكلم) صدرت عام 1974 وهي أول رواية للكاتب تترجم إلى اللغة العربية وقد ترجمتها رفيدا فوزي الخباز، وصدرت عن الهيئة العامة للكتاب أواخر عام 2009.

تحكي الرواية قصة أسرتين تعيشان في مدينة نيويورك، في أحياء السود المهمشة، وتربط أفرادهما مودة، وتنشأ علاقة حب بين فوتي وتيش، الصديقين منذ الطفولة، لكن هذه العلاقة، التي تتوج بزواج بسيط، في شقة معتمة مستأجرة، تواجه مشكلات أقسى من الفقر والتهميش، إذ تلفق للشاب فوني تهمة تقوده إلى السجن، وتواجه زوجته الحامل المتيمة به هذا الوضع بشجاعة، مستندة إلى قوة العلاقة مع زوجها، وإلى مساعدة أفراد أسرتها: الأخت الكبرى إرينستاين والوالدين، إذ تفهّم الجميع منذ البداية صحة العلاقة بين الشابين، وتفهموا أحكام المجتمع القاسية على السود الفقراء، والأذى المتعمد الذي يلحقه النظام بمن يقع في قبضة الشرطة والسجانين القساة الفاسدين.

ولم تكتف أسرة الشاب الأوفر حظاً من حيث مستوى عيشها، وميل أفرادها إلى المظاهر الفارغة، بالبقاء بعيداً عن محنة ابنهما، بل حمّلا الزوجة مسؤولية محنة فوني، وكأنهم يضيفون المزيد من القسوة ضد هذه الأسرة الجديدة. وتفلح أم تيش وأختها اللتين تحركتا منذ البداية، وبذلتا ما في وسعهما، بمساعدة المحامي هيوارد، في جمع قيمة الكفالة المالية الباهظة، وإخراج فوني من سجنه، في الوقت الذي كانت فيه تيش تستقبل طفلها الذي جاء إلى عالم قاس، وظل يصرخ ويصرخ كأنه يتعمد إيقاظ الميت (ص 252).

سردت تيش تفاصيل منعطف حياتها الأهم، حين ودعت طفولتها الساذجة ودفء الحياة الأسرية لتواجه حياة جديدة مع حبيبها فوني، الفتى المندفع وعاشق النحت الخشب والحجر، الذي تحولت معه وتحول معها إلى كائنين مختلفين موحدين بالحب، ومتعاضدين ضد قسوة علاقات لا رحمة فيها ولا إنسانية، تضغط على فقراء الأحياء الشعبية وعلى الزنوج، وعلى الشباب خاصة، وهي علاقات تناقض علاقة الحب الإنسانية.

وتترصدها، وتقسر الجميع على أن يتقبلوا تبعية ذليلة أو أوهام حرية زائفة. تصف تيش واقع شباب جيل السبعينيات وتقول: (كانوا أحراراً إلى درجة أفقدتهم إيمانهم بأي شيء، وأعمت بصائرهم عن رؤية أن هذه الحرية هي محض وهم يعيشونه، كانوا يفعلون ما يطلب منهم فعله بالضبط) – ص 74. فهل هناك تبعية مرعبة أدهى من هذه، على حد تعبير إرينستاين شقيقة تيش.

سردت تيش، بإحساس أنثى رقيقة هشة تطل على حياتها الجديدة  وتعبر جسر المتاعب، ووصفت التحولات التي تحدث وآثارها عليها وعلى الأسرة وعلى الفئات المهمشة في واقعها، وأبرزت امتزاج القسوة بالرقة في الحب، ومن خلالهما تتجلى الحياة الحقيقية بأدق لحظاتها، تذكرت لقاءها الحميمي بحبيبها  فوني لأول مرة وقالت: (نظر إلي بهدوء شديد وبقسوة شديدة، ومن خلال هذه القسوة تحرك حبه..) وأضافت: (كنت أعيش لحظات من التحول.. وأن كل شيء في داخلي كان يتكسر ويتحول نحوه). ص 100-102.

حين سيق فوني إلى المعتقل كانت تيش حاملاً، وراحت تكافح من أجل إطلاق سراحه، كانت أسرتها تدعمها، لكن أسرة فوني اكتفت بالفرجة، وبإلقاء اللوم على تيش التي جلبت هذه له هذه المصيبة، وسردت معاناتها خلال زيارته في السجن، ومحادثته عبر الزجاج السميك الفاصل بينهما، كانت تدقق في كل تغيّر تلحظه عليه، وتحاول جاهدة تبديد لحظات اليأس التي تنتابه. وتتأمل دلالة وقوع هذه المشكلة في بداية رحلتهما الحياتية المشتركة، وكأنها اختبار لقوة العلاقة بينهما، وقالت: (إنها معجزة حين تكتشف أن أحدهم يحبك) – ص 61. وساعدها على الصمود دعم أبيها، وتحرك أختها السريع لحمايتها، وتذكير أمها الدائم لها بضروة حماية الطفل.

وكانت ترصد التغيرات التي تحدث لطفلها الذي يتحرك في أحشائها، محتجاً حيناً، وعابثاً أحياناً، وتحس أنه يتشكل من خيوط العلاقات والمشاعر التي تحيط بها في مناخ الأسرة المعافى، وتقول: (من كل هذه العناصر، من هذا الانتظار، ومن لمسة والدي، ومن الأصوات المنبعثة من أمي في المطبخ، ومن طريقة سقوط الضوء الخافت، ومن الموسيقا المتواصلة خلف كل شيء، و من حركة رأس إرينستاين، ومن الأصوات الضبابية المنبعثة من الشارع، من اضطرام الحزن المحتفي بالانتصار ورسوخه بطريقة ما، من كل تلك العناصر كان طفلي يتشكل ببطء، وكنت أتساءل إذا ما كان سيحمل عيني فوني) – ص 60-61.

سخر بالدوين من قسوة شريحة اجتماعية تعمّم العنف والبلادة وتفرض التبعية على الفقراء والضعفاء، وتقيم الحواجز في وجه العلاقات الإنسانية الطبيعية، وماذا يتبقى بعد ذلك سوى الضياع والتخبط، فقد قال الأب جوزيف لابنته تيش: (يبدو أن علاقة الآباء بأبنائهم شيء وعلاقاتهم ببناتهم شيء آخر، ومن غير المجدي أن تبحثي في هذا اللغز، فالغوص فيه ليس بسيطاً وليس مأموناً، فنحن لا نعرف أنفسنا

بما فيه الكفاية، ومن الأفضل لك أن تعرفي بأنك لا تعرفين، وهذه الأيام كل شخص يعرف كل شيء، ولهذا تجدين العديد من الأشخاص يتخبطون تائهين). ص 65.

استخدم بالدوين تقنية سرد أحداث الحاضر، بمزجها مع ذكريات الماضي، ليقول إن الماضي والحاضر متعانقان، ورصد مخاطر مجتمع محكوم بفصام وانقسام عميقين، أقلية مترفة، وأكثرية مفقرة، وشعور مرضي بالتمييز على أساس العرق واللون لم يتخلص منه المجتمع الأمريكي رغم مرور قرن ونيف على تحرير العبيد في الولايات المتحدة، ومرور ربع قرن على صدور الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.

وفي مجتمع كهذا يعد إحساس الفرد بأنه هو وليس عبداً لأحد جريمة، ومثل هذه النظرة تدفع المجتمع نحو مستقبل بائس أشار إليه بالدوين الناشط في ميدان الدفاع عن حقوق الإنسان وحقوق أبناء جلدته السود بالقول: إننا مقبلون على مستقبل لا يقل بؤساً عن الماضي الذي قادنا إلى هنا، وإن كان بطريقة مختلفة.

العدد 1140 - 22/01/2025