تمخّض الجبل فولد فـأراً !

 يمكن القول بأن التحذيرات الروسية الحازمة، رداً على تهديدات ترامب العنترية، قبل عدوان يوم السبت الماضي على سورية، وتماسك محور المقاومة وصلابته، هي التي حدّدت المستوى المتدني والطابع الرمزي لهذا العدوان؛ وبالمقابل، حدّد هذا المستوى من العدوان الشكلَ الذي تعاطت به موسكو ومحور المقاومة مع نتائجه.

فأولاً – تحاشى منفذو العدوان تماماً استهداف أية مواقع، لا لروسيا وحسب، بل لإيران وحزب الله، في سورية، وتأكيدهم، في الوقت ذاته، أنهم لا يستهدفون إسقاط النظام السوري. وهذا ما أصاب كلاً من إسرائيل والسعودية بحالة من الإحباط الشديد، بخاصة أن الأخيرة فقدت للتو آخر معاقلها في الغوطة الشرقية، بخروج جيش الإسلام التابع لها مهزوماً، وكان يمثل آخر رهاناتها، فوق الأرض السورية، كخنجر مسموم في خاصرة العاصمة السورية دمشق.

ثانياً- برغم إنكار واشنطن إعلام موسكو مسبقاً عن خطة العدوان، فباريس، من جانبها، أكدت العكس؛ وهذا يعني أن المواقع التي استهدفها العدوان كانت خالية ومهيأة لـ(مسرحية)، غرضها مساعدة ترامب على النزول من فوق الشجرة العالية التي تسلّقها حين كان يطلق تهديداته بلا حساب ولا حدود. بل إن بعض المواقع التي استهدفها العدوان بالصواريخ كانت مناطق مدمرة من غارات عدوان سابق. أما الضحايا البشرية، فثلاثة جرحى مدنيين فقط. وبالنسبة لنا في الأراضي المحتلة، يسقط في أية مظاهرة سلمية، برصاص المحتلين الإسرائيليين، أضعاف أضعاف هذا الرقم، قتلى وجرحى.

ثالثاً – إذا كان التحالف الثلاثي الأمريكي- الفرنسي – البريطاني قد أطلق في هذا العدوان 105 صواريخ، كما أعلنوا، فقد تمّ إسقاط 71 منها بالمضادات السورية وبخاصة صواريخ س،200 وكما تشير مصادر روسية يجري، الآن، بحث جدي بتزويد سورية بصواريخ س 300 الأكثر حداثة وتطورا. وهذا ما يضاعف قلق إسرائيل، في وقت تتوقع فيه رداً إيرانياً على عدوانها على قاعدة (تي فور) في سورية، الذي تسبب في مقتل سبعة إيرانيين.

رابعاً – أن التحالف الذي نفذ هذا العدوان كان ضيقاً بشكل لافت للنظر هذه المرة، واقتصر على الدول الثلاث التي نفذته، بينما بقية الدول الغربية الأخرى مثل ألمانيا وإيطاليا وإسبانيا وكندا، امتنعت عن المشاركة، حتى ولو الرمزية. وفيما يتعلّق بمشاركة بريطانيا في هذا العدوان، فقد انتقد زعيم المعارضة، ورئيس حكومة الظل العمالية، جيرمي كوربين، بشدة هذه المشاركة، قائلا: (كان على رئيسة الوزراء تيريزا ماي السعي للحصول على موافقة البرلمان بدلاً من تلقي التعليمات من واشنطن)، كما أن أعضاء في حزب ماي نفسه انتقدوا هذه المشاركة؛ وبينما أعلن الرئيس الفرنسي، ماكرون، أنه أقنع الرئيس الأمريكي ترامب على البقاء في سورية، جاء بيان من البيت الأبيض يؤكد عزم ترامب على الانسحاب من هناك في أقرب وقت، مما يعكس حجم الإرباك في صفوف المعتدين. أما في العالم العربي فلم يؤيد هذا العدوان سوى السعودية والبحرين وقطر، بينما عارضته أو تحفظت عليه بقية الدول العربية. في حين عبّر الشارع الشعبي العربي على امتداده عن رفض هذا العدوان والتضامن مع سوية، سواء بالمظاهرات، كما جرى في العراق وتونس والأراضي الفلسطينية المحتلة وفي حيفا داخل إسرائيل بمبادرة من الحزب الشيوعي الإسرائيلي والجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة وجبهة التضامن مع سورية، أو بأشكال أخرى؛ هذا إلى جانب مظاهرات الاستنكار والإدانة لهذا العدوان في الأمريكيتين وفي عدد من الدول الأوربية.

أما ذريعة هذا العدوان، وهي الزعم باستعمال النظام السوري للغازات السامة، فقد غدت (كليشيه) ممجوجة وباهتة، لزيفها المفضوح وكثرة استعمالها، إذ يجري اللجوء إليها كلما كانت عصابات المرتزقة التي يستخدمها التحالف المعادي لسورية، في مأزق أو عقب هزيمة استراتيجية، كتصفية وجودها في حلب أو الغوطة الشرقية؛ وذلك بهدف رفع معنويات هذه العصابات وتأكيد استمرار دعمها.

والمفارقة، أن واشنطن وحليفتيها في هذا العدوان، أقدموا على ارتكابه، ليس فقط دون تفويض من مجلس الأمن، بل وبزعمهم تمثيل المجتمع الدولي في هذا الجرم. وقد سارعوا في ارتكابه، في اليوم نفسه الذي كان وفد لجنة حظر الأسلحة الكيماوية، التابعة للأمم المتحدة، في طريقه إلى سورية للتحقيق في تلك المزاعم، ليسدّوا بهذا العدوان الطريق على أي تحقيق نزيه يعري تزويرهم. وكان من دواعي السخرية أن أتبعوا العدوان بدعوة مجلس الأمن لتشكيل لجنة تحقيق، على هواهم. أي تحقيق بعد العدوان لا قبله! على طريقة تقليد صيني قديم يعاقب الخادم قبل أن يقوم بغسل الصحون، لاحتمال كسره أياً منها خلال تنظيفها.

وإذا كان هذا العدوان لم يؤثر مطلقاً على الوقائع على الأرض السورية، ولم ينل من انتصارات الجيش السوري وحلفائه ومواصلتهم تطهير بقية البقع التي ما تزال تحت سيطرة عصابات الإرهاب الدولي، بعد تطهير الغوطة الشرقية من فلول هذه العصابات، فقد كان هذا العدوان، بالمقابل، مؤشراً واضحاً إلى الحدود التي تراجعت إليها قدرات واشنطن على العدوان في المنطقة، في ضوء المتغيرات المتسارعة في المنطقة والعالم لغير صالح المحور الإمبريالي – الإسرائيلي – الرجعي العربي. هذه المتغيرات التي انعكس تأثيرها، ولو في حدّها الأدنى، على قرارات القمة العربية الأخيرة في السعودية، رغم شكليتها وتفاهتها، وذلك بتأكيد هذه القرارات حقوق الشعب الفلسطيني القومية وعروبة القدس المحتلة، إلى حدّ تسمية تلك الدورة بقمة القدس.

ولكن بمقدار ما تعكس هذه التسمية دجلاً ورياء من النظام السعودي، فإنها انعكاس، بالمقدار نفسه، لتعقد أزمتهم وارتباكهم تحت ضغط التطورات المعاكسة لنشاطهم التآمري على الشعوب العربية وعلى القضية الفلسطينية، وهم الذين نذروا أنفسهم للضغط على الجانب الفلسطيني للتخلي عن القدس لصالح المحتلين الإسرائيليين، وتبرع ولي عهدهم بالأمس، للدفاع عن (حقوق) هؤلاء المحتلين، في وقت يصادرون فيه جميع حقوق الشعب الفلسطيني. كما ترمز تلك القرارات للقمة المذكورة، من جاب آخر، إلى أن مصير (صفقة القرن)، التي راهن عليها هؤلاء الحكام لتصفية القضية الفلسطينية، وفتح طريق التحالف الرسمي والعلني مع إسرائيل، هو رهان على سراب. فجميع هذه التطورات راحت تصبّ في صالح القضية الفلسطينية وضد أعدائها. ومن العلامات الفارقة لمسار التاريخ المعاصر، أن نظامين، إقليمياً ودولياً، جديدين وواعدين يجري إرساء قواعدهما، اليوم، فوق الأراضي السورية بالذات.

العدد 1140 - 22/01/2025