مؤتمرون ومؤتمرات
مؤتمر ومؤامرة كلمتان من مصدر واحد: الأمر، وهما مرتبطتان ارتباطاً وثيقاً كما أثبت التاريخ المكتوب وغير المكتوب لمنطقتنا والعالم، فما زلنا ندرس مؤامرات ومؤتمرات سايكس بيكو وبلفور وغيرها، وننسى أن نسأل أين كان ساستنا وزعماؤنا، وشعوبنا بالتالي، فيما الآخرون يتآمرون ويعقدون المؤتمرات لرسم مصائر البلاد وتفتيتها وتقسيمها كما لو أنها كعكة شهية؟…
وما زلنا نتحدث عن المؤامرات، وهي موجودة ما وجدت الحياة، ويبالغ البعض في اعتقاده بها إلى درجة مرضية، فيعيد كل ما يحصل معه إلى مؤامرة خارجية لعينة، حتى لو كان مغصاً معوياً أو نزلة برد…
من هؤلاء جارنا (أبو شومان) المعروف ب(أخلاقه الضيقة) وتبرّمه الدائم إضافة إلى قامته القصيرة طبعاً وفقره المدقع، إذ كانت بقرته الوحيدة التي منحها إياه ابن عمه الميسور على سبيل الصدقة لا تدرّ سوى القليل من الحليب، وحسب تحليل أبو شومان فإن ابن عمه أراد أن يتخلص من هذه البقرة العجفاء فحمّله منّية وأعطاها له.
وأحياناً بعد رصد وتحليل يعترف بأنها كانت معطاءة وكان حليبها وافراً، لكن عيناً أصابتها من جيرانه الحساد، فصارت على هذا الوضع، وكان أن كتب أحد ظرفاء القرية على قفاها بواسطة عود متفحم عبارة: عين الحسود فيها عود. كما نقل عنه في أحد المجالس أن راعي القرية لا يهتم ببقرته تحديداً ويمنعها من ممارسة الرعي الحر خلال النهار، ويضربها مما يسبب لها الرعب وبالتالي انقطاع حليبها.
وقد وصل أخيراً إلى اتهام زوجته المسكينة التي لم تكن تنجب سوى البنات بأنها متآمرة ضده، ولا تريد أن يصبح عنده شومان وإخوة لشومان ليصبح اسمه حقيقياً وليس لقباً اعتاد الناس عليه في القرى، وأرسلها مع بناتها إلى آخر من تبقى من عائلتها وهو أخ غير شقيق من قرية بعيدة. ولم ينته الأمر إلا بعد تدخل العقلاء وشيخ القرية والمختار ليقنعوه بأن المخلوقة لا علاقة لها بجنس الجنين، وأنها إرادة الله، وعليه أن يستمر في الإنجاب حتى يأتيه شومان ولو صارت عنده دزينة من البنات.
لكن ما كان ينقص أبا شومان هو أنه لم يكن قد سمع بكلمة مؤتمر، وإلا لكان عقد مؤتمراً كلما أحس بواحدة من المؤامرات الكثيرة عليه، فكان يكتفي بالحديث عنها والتفكير فيها وكيفية تجنب آثارها عبثاً. فمصيبته الكبرى كما الملايين مثله كانت في الفقر الذي يجرّ معه سلاسل لا تنتهي من المصائب والكوارث، يضاف إلى الفقر قلة حيلته وجلوسه الدائم في البيت، بحجة أن الآخرين لا يقبلون تشغيله في أراضيهم، وهي حقيقة لأن أحداً لا يتحمل نقّه وشكواه الدائمة أثناء عمله.
يمكن تعميم حالة (أبو شومان) على كل ما يحصل في هذه البلاد والمجتمعات المنكوبة بمؤامرات من مختلف الأحجام والأنواع والألوان، مؤامرات تلزمها مؤتمرات مخصصة لمناقشة التحديات التي تتعرض لها البلاد، ومسيرات النضال المظفرة رغم الهزائم المنكرة التي تتعرض لها، حتى صار المؤتمر خبراً عادياً عابراً عند المواطن ال(عالم ثالثي)، سواء جاء في المانشيتات الأولى للصحف أم في الصفحات الداخلية، وصار أي حديث عن مؤامرة ولو كان صادقاً وحقيقياً (إذ لا يخلو الأمر من مؤامرة هنا ومؤتمر هناك) يبعث على الضجر إن لم يكن باعثاً على الضحك.
ثم تندلع الحروب، وقبلها يكون كل طرف بحاجة إلى ابتداع مؤامرة إن لم تكن موجودة، حتى يحشد أتباعه خلفه في الحرب التي يراها الجميع قادمة لا ريب فيها، ثم لا بأس من أن نستمر في المؤتمرات، مؤتمر يفرخ مؤتمراً، أو مؤتمر بقفا مؤتمر، والنتيجة واحدة: من مات خسرناه وخسره بلده، ومن اعتقل أو اختطف أو هجر أو هاجر أيضاً خسرناه وخسره البلد، وبقيت المؤتمرات وما يتبعها من ولائم وتكاليف إقامة وسفر و(الذي منّو) حكاية نافلة.
الآن، في هذه الأيام الباردة، كان علينا نحن السوريين أن تنشد أبصارنا إلى ثلاثة مؤتمرات دفعة واحدة، وكأنهم يعملون بالـ(جكارة)، يا شباب على الأقل نسّقوا مواعيد مؤتمراتكم حتى لا تتقاطع واحدها مع غيره، ونصاب بالتشتت الذهني، خصوصاً مع ساعات انقطاع الكهرباء الطويلة التي ستحجب عنا إطلالاتكم البهية في كل مؤتمر.
والعبد لله كمواطن سوري ما زال تحت سقف الوطن يرى أن (العناتر) لا يمكن لهم أن يصنعوا سلاماً، فقط من يكون مستعداً للتنازل عن بعض ما يريد ليأخذ بعض ما يريد يمكن أن يصنع السلام، فأين هذا الآدمي؟ يا أهل الصبر دلّوني….