السماء السابعة

(المعذبون في الأرض)، كانت رائعة (فرانس فانون) في أزمنة مضت، لكنها الحكايات ذاتها المفتوحة التي كسرت إطارها، وحلقت إلى أبعد من سماء سابعة، والشوارع غدت صحائف يكاد حبرها يفيض بالمكلومين، التائهين الذين لا يلوون على شيء، فقط تسيل من أفواههم الكلمات دون أن يسترها إلا القليل، لكأنها هي أيضاً من تبحث في الوجوه العابرة عن بقايا ابتسامة وجمر حروف لم تُقل بعد.

هي عادة الجنون أن يستبد بنا ليصبح القول مجدداً (الجنون الآن) لاسيما أن الجيوب أصبحت مثقوبة بما يكفي وليس من شأنها أن تسد رمقاً أو تُعيد سيرة حلم ما، وربما هو الواقع أصبح (فانتازياً) أكثر من اللزوم، إذ إن حكاياته لم تعد متفرقة كما هو الحال عادة، بل أصبحت مجتمعةً دفعةً واحدة، ويكاد القدر أن يأتي بالنهاية من البداية، وأن يدفع شخوص رواية الحياة إلى النهاية في بداياتهم المرتبكة ولو شاؤوا أن يركبوا البحر أو يسيروا في الشوارع مسرعين خوفاً من موت مفاجئ لا يحزرون من أين سيأتي ولن تكون غيمة عابرة واقية بما يكفي لمنع ذلك.

لكن المفارقة هي في كثرة (الرواة) الذين ينقلون الحدث في غير طريقة، فهو ليس متعتهم الوحيدة، هو جزء من حكايتهم التي لا تبتدئ ولا تنتهي، فالتغريبة أصبحت تغريبات داخلاً وخارجاً ربما من أجل لا شيء، ربما من أجل أكثر من حلم، ففي رواية (البرد) وهي أكثر الروايات الشائعة على ألسن لم تعد فيض متخيل فحسب، بل أصبحت واحدة من الحكايات التي لا يعوضها الحنين إلى أزمنة سالفة، بقدر ما جعل البرد كائناته قطعاً من لحم الآدمي يتكور ليلاً دون حلم ينتظره لتفسره شهرزاد في الصباح، وفي أزمنة الحنين كلها نخيط أطراف روايتنا بحثاً عن تلك الحلقة المفقودة التي تعيد المعنى إلى يومياتنا الهاربة بانتظام، حتى من مهارة تدوينها شفاهاً أو كتابةً لأن الحكاية تلبست البشر تماماً وصارت هي تحكي عنهم، عن الخوف والعزلة والحنين المُستعاد والأحلام المسروقة قمصانها في وضح النهار، فالإنسان- كما يقول الفيلسوف فريدريك نيتشه- أصبح ذئب الإنسان، فلا غرابة إذاً من خوف لم يعد أصيلاً ومن أدمغة لم تعد تفكر، فيما يتساءل أحدهم بسؤال استنكاري ساخر: هل تفكر الأقدام؟ وقياساً: هل تفكر الأيدي؟ وفي هذا المسار الأقرب إلى الفنتازي أو الخيال، يمكن تأويل الحكايات السريعة والتي تمر من أمام عدسة التاريخ متسارعة لتصب في نهر الزمن ذكرى تتأبى على الاستعادة، فالتذكر يخاتل الذاكرة والكلمات تخاتل قائليها، هي حكايات أكثر من سماء وما يجري تحتها من حيوات وهواجس قد أصبحت أشبه بمركبات الأفكار الذهبية حين ندعو النسيان إلى موائدنا العامرة ليمنحنا نعماءه، لكنه أصبح حقاً بطلاً آخر نستدعيه ونتوسله لأنه حارس تلك اليوميات الهاربة من تقويم الذاكرة والأيام، لاسيما أن الفقد هو واحد من عناوينها وأن الانتظار هو سمتها الرئيسة، بل علامتها الفارقة، فنحن انتظاريون بما يكفي، لكنه لا يكفي قصيدة تكتمل أو رواية تمضي إلى خواتيمها بهدوء، أو فرجة بصرية في مطلق شارع أو زقاق أو حارة منسية أو حديقة مهجورة، إلا من العصافير الملونة، هي مجاز أشواق من ذهبوا ومن ظلوا رغم نزيف الوقت يجترحون حكايتهم الأساسية الطويلة/القصيرة، في أعمار لا يعلم أحد سعتها، لأنها محكومة بأفعال القدر أكثر من رغبات لو كان بوسعها أن تمنح حياة فوق حياة، وأكثر من سماء لتظل الأحلام مشرعة وتتناسخ آلاف الأحلام، فهل أصبح العالم حقاً قرية واحدة، لكنها تضيق بسكانها، تضيق جداً حتى ليتساءل المرء: هل كانوا هنا حقاً؟.

العدد 1140 - 22/01/2025