دسّ السم في الدواء

العودة للماضي إن لم تكن للاستفادة والبناء فهي تضليل أو هراء، ما يجعلك تهدر وقتك للتطرق إلى أمور تناسيناها لضرورة الانطلاق الصحيح البنّاء. هو الخوف من ذيول العوالق اللواعق الذين لم يشبعوا من تنجيس تراب الوطن ولم يرتووا من دم الفقراء الشرفاء الأبرياء، بعد أن نفّذوا مدخلاً اقتصادياً اجتماعياً لتحطيم البنيان وتهشيم الإنسان وإفساد الشرف والرهان على ركوب موجات الغربان، وما تناسيهم إلا استراحة الفرسان لعودة الأمان. أما استغلالهم الفرص حتى يعودوا للتضليل وذر الرماد في العيون فهو حلم لهم، ما دام في هذا الوطن طفل ابن شهيد أو نازح أو معاق بسبب أولاد اللا انتماء، فبعد أن شبعنا من الأرقام المضللة كمياً أو بنيوياً لموجة الانقلاب الاقتصادي تمهيداً للانقلاب السياسي المدمر، وبعد أن اعترفت الجهات الرسمية بعد بداية المصاب بهذا التضليل ودوره الخطير، و بعد استمرار التماهي مع ما رسم لنهج لا يحابي إلا المأجورين ومنفذي أدوار الامبريالية الحالمة بتقويض سوريتنا واستباحتها وجعلها فاشلة تقبل بكل الحلول، وبعد الصبر والصمود الأسطوري المتناغم بين أغلبية الشعب والمؤسسة العسكرية، تعود بعض الأفواه الآن لتبوح بما يجب أن يكون من المحرمات، لتبييض فترة الانقلاب التي عايشناها وتضمنت تضخيم أرقام نموه واعتباره سنة أساس لحساب حجم خسائر اقتصادنا الصامد الصابر، وكل ذلك من باب الوفاء لأسياد نهجهم عسى أن يعودوا قادةً لمرحلة الإعمار.

وتناسى هؤلاء أن ما صمدته سورية كان وليد عقود من البناء والإعمار الذي جذّر بلداً ذا تنمية مستقرة متوازنة مستقلة بمؤشرات اقتصادية واجتماعية قلما شهدتها بلدان المنطقة (مشافٍ، مدارس، سدود، موانىء، ضواحٍ، سكنية، مدن رياضية، مراكز ثقافية، جامعات، صرف صحي، مياه شرب، وبنى ثقافية وسياسية، وتوازن بين الريف والمدينة، ورفاهية وطبقة وسطى شاملة صلبة قوية)، رغم محاولات الضرب والإحاطة والتفريغ والتقزيم. وكانت سورية مثالاً للدول النامية المرتقية إلى مستوى دول العالم الثاني بلا ديون، وبميزان تجاري فائض وعلاقات دولية متوازنة وأمن غذائي وصمود عقائدي، وإن كان هناك بعض الأخطاء، ولكن البعض أقحم المشاريع التي كان هدفها التمهيد للفوضى الهدامة المبتكرة من الغرب، والتي لا يمكن أن تنجح من دون قلب النهج الاقتصادي بما يتماشى مع البنك الدولي ومؤتمر واشنطن بحيث يقضي النهج الذي سارت عليه الحكومة على الطبقة الوسطى ويضرب الأمن الغذائي ويهجر الأراضي ويسحب يد الدولة من قيادة الاقتصاد، عبر زيادة الضرائب وحرية الاستيراد وتخسير القطاع العام والادعاء بالدعم الذي هو عدالة توزيع الدخل، ورفع أسعار المحروقات والتظاهر بنمو اقتصادي فقاعي بدعم شركات أجنبية تحت الطلب، لنهب العملات الصعبة والانسحاب، والأخطر هو موجات من الإفساد والاعتماد على كوادر نخبوية غير عضوية لا تملك هوية شرط لنجاح الرهان، وهو ما كان لكوادر أغلبها غادرت وبقيت الذيول، وحرف النهج الذي تبناه المؤتمر العاشر ولم يعمل إلا بما يتماشى لا مع الليبرالية، بل أخطر منها، فحتى الليبرالية بحاجة إلى شروط من المنافسة وعدم الاحتكار وجو من القانون وعدم الفساد، ورغم ذلك فإن مناعة النسيج السوري عرقلت تبني هذا المشروع الانتقامي، فما كان إلا التغرير بمعاناة طبقات ولدت من عمالتهم وسخرت كل الأدوات التضليلية الإعلامية والاستخباراتية ليكونوا وقوداً للانتقام والتدمير والتهديم وقتل المناعة الاجتماعية وتهديم البنى التحتية وحرق المحاصيل وتدمير المعامل والمدارس وتهريب العملات الصعبة وقتل أجيال من الشباب السوري وسرقة وتهجير العقول، ورغم ذلك صمدت سورية واستفاق أبناؤها ووحدتهم المصيبة والدم. ولن أدخل في تفاصيل الأرقام التي قدرت بـ50% من الناتج المحلي وبعضهم قدرها ب250مليار دولار لأنه إن لم تكن هذه الأرقام التي لولا الانقلاب الاقتصادي لتراكمت أضعافاً منارة الانطلاقة والعمل الدؤوب للعودة القوية بما لا يجعلنا خونة لدماء إخوتنا السوريين، فلا فائدة من ذكرها. أما أن تكون مضخمة لتبرير سوء فعل البعض بتحويل اقتصاد السوق إلى سوء، فأكيد لن يمر هذا من دون رقيب. ولكن رغم هذه الفاحشة التي ارتكبها بعض من كان يهلل للدردرة ولمن استمر بعده ممن عارضوه لتقزيم الاقتصاد السوري وتقويض سورية وإذلال شعبها فهي تزيدنا عملاً لوضع رؤى تنسجم مع واقعنا وتعيد العجلة للانطلاق وهو ما تلوح أفقه ولا ضير من الاستفادة من تجارب دول لأخذ الوصفة العلاجية لسوريتنا والمكافأة لشعبها ولدمائه الطاهرة، ومن يتصدر للبناء أجدر به إيجاد الخطط واقتراح الحلول لا التذكير بالمآسي والتهليل لفلول السواد.

 أكيد إن انعكاسات الأزمة والحصار والعقوبات تقلل من الخيارات ولكنها تعطي الأمل لشعب وقف وصمد تحمل الألم والجوع والدم وتناغم مع الظروف ووقف مع جيشه، وبالتالي الأجدر أن نزاوج بين ثقافة التقشف العادلة أسوة ببعض البلدان بحيث تساوي بين أهل البلد وتكبح سلع الرفاهيات والكماليات وتحد من الاستهلاك الغرائزي، تقشف مرحلي متزاوج مع سياسات استثمارية تعيد الطاقات الانتاجية وتضع كل من يزاود على خانة الاختبار الوطني، والملاحظ أن اللعب بسحب السيولات لتقشف إجباري وإضعاف الطلب على العملات قد تكون أخذت دورها ولكنها غير كافية ومؤلمة أحياناً كثيرة وغير عادلة، في ظل الحروب هناك نهج خاص راعتنا به الدولة حتى لا يفقد الشعب الثقة، ولكنه آن الأوان ليعطي كل دوره لحماية البلد وهناك نماذج تقشف عادلة بعد الحروب كالنموذج البريطاني. وما يلاحظ على دراسات الأقزام هو البعد عن تشخيص الأمراض الاجتماعية كالبطالة والفقر وإعطاء العلاجات للإحاطة وتناسي باقي الأمراض الاجتماعية كالإعاقة واليتم والنزوح وووو..

ويبقى السؤال: هل تتبنى الحكومة كما يقال هذه الدراسات؟ وهل تبنى المكتب المركزي تلك الأرقام وخاصة كلنا يعرف أنه في فترة والحروب قلما تصرح الحكومات بأرقامها حتى لا تتحول سلاحاً بيد من يريد إسقاطها اقتصادياً، وتبقى مناورات التماهي بما يحيط بنا وبنهج اقتصادي ينفعنا ممكنة بتجارب كالصين وماليزيا لاستثمار العقول وإعادتها للعرين وتشاركيات شعبية أو رساميل وطنية قائدة ومنفذة للأجندات الوطنية عند الطلب، ولسياسات التعيين أهمية للإحاطة بفساد السنين، مهما نفذت التقية براثن الانقلاب فلن تفلت من العقاب.

العدد 1136 - 18/12/2024