ملاحظات نقدية على هامش الأزمة
بعد ثلاثين عاماً تقريباً، انفجر الصراع وعادت الأزمات تعصف مجدداً في سورية، بتأثيرات لا يمكن إهمالها من الدور الإقليمي الخطير لكل من المملكة العربية السعودية وتركيا. لكن دون إنكار طابع البنية السياسية السورية المبني على الصراعات، ودور الحركة الدينية السياسية فيها بوجه خاص. فقد تفاعلت عبرها سلسلة من التداعيات، متعلقة بطبيعة الممارسة السياسية في الدولة السورية ونهجها، وسبل إدارته للمجتمع في المسائل السياسية والاقتصادية والوطنية، الممهورة بالطابع الاحتكاري لاتخاذ القرار، الذي أدى في كثير من الأحيان إلى تقديرات غير واقعية للموقف من تطور الأحداث.
بينت الأحداث اللاحقة لانطلاق الأزمة السورية أن آليات اتخاذ القرار كانت بشكل أو بآخر غير دقيقة في اختيار العديد من الخطط من منظور المصلحة الاستراتيجية العليا. في الواقع كان لدى القيادة السورية قناعة شبه مطلقة بأن الوضع في سورية لن يصل إلى ما وصلت إليه الدول العربية التي أصابها (الربيع العربي). وفق هذه القناعة لم تحصل أية مراجعة حقيقية لمكامن الخطأ في بنية الدولة السورية ومفاصلها، خاصة الفضاء الاقتصادي ومنظومة البنية المدنية التي تعرضت لأكبر ضرر يمكن أن يتصوره أحد.
هكذا سقطت من الحسابات الاستراتيجية النفط والإنتاج الكهربائي والقمح والصناعة النسيجية والتحويلية، إذ وقعت فريسة النهب والتدمير والسرقة. عوضاً عن ذلك اتبعت القيادة السورية في المقام الأول سياسة حماية المناطق ذات الكتل السكانية الرئيسية. ومن زوايا متعددة هذه الاستراتيجية كانت صحيحة نسبياً. هكذا تركزت مهمات الجيش السوري داخل المدن، في مواجهة مُعقدة للغاية ومحفوفة بالمخاطر مع الميليشيات الإرهابية الفاشية، التي اتبعت خططاً ذات فعالية كبيرة، هي بالتأكيد ليست من نسج أفكارها بقدر ما هي ممهورة بخبرات وتقنيات دولية وإقليمية، وأدت مع مرور الوقت إلى مواجهة واسعة ضد الجيش السوري لاستنزافه وإنهاكه، من ثم استغلال النتائج الميدانية التي يمكن أن تحصل لانتزاع السلطة السياسية فيما بعد. قامت المؤسسة العسكرية السورية بواجبها الوطني، وبقيت على مستوى عالي من التماسك، وحافظت على روحية ووعي لافتان في الاستعداد والدفاع عن الدولة والسيادة والجغرافيا، وقدمت التضحيات، وجنودها الذين أُهملوا، ورمي بهم في بعض الأحيان لقمة سائغة، كانوا رمز البطولة.
لكن الحرب فرضت واقعاً جديداً. لقد أدى ضعف الاهتمام بالمقاتل السوري بشكل أو بآخر، وكذلك تحوّل الأزمة السورية السريع إلى العنف المسلح، أدى إلى نشوء ظواهر أو منظمات مسلحة رديفة لم تكن موجودة سابقاً، مثل (الدفاع الوطني، الألوية الطوعية، وصقور الصحراء وغيرها). نشأت هذه المنظمات من حيث المبدأ لدعم الجهود العسكرية للقوات المقاتلة، عبر مجموعات محلية خفيفة التسليح، تشكل نوعاً من الدعم للجيش السوري، الذي بدأ يقاتل على مساحات شاسعة من سورية.
لكن من منظور معين، ظهرت هذه المنظمات بفعل الضغط الإيديولوجي والاقتصادي على شريحة واسعة من المجتمع، سببته التداعيات الاقتصادية والاجتماعية للحرب، فقد وفرت هذه المنظمات ملاذاً آمناً قائماً على مبدأ التخصص، بمعنى التمييز الحمائي من القانون واكتساب درجة من النفوذ السلطوي، مع العطاءات المادية التي يمكن أن تأتي إما عن طريق وسائل مشروعة على شكل رواتب نظامية، أو عن طريق وسائل غير مشروعة أصبحت معروفة محلياً في سورية بظاهرة (التعفيش). ورغم عدم إنكار أن هناك العديد ممن تطوعوا كانوا من الشرفاء، ومنهم من قدم حياته في المعركة، ساهمت هذه المنظمات المسلحة في الإساءة للمؤسسة العسكرية، وأصبح بعض قياديي هذه المنظمات أقوى من سلطة الدولة نفسها، وحصلت بعض الحوادث ظهر فيها قادة هذه المنظمات أكثر نفوذاً من قادة الجيش أنفسهم مُعززةً بذلك التمايز وردود الفعل بين عناصر الجيش السوري وأفراد هذه المنظمات من حيث العائد المادي والنفوذ السلطوي، كما أدت إلى ارتفاع نسبة الجريمة والفوضى في البلاد.
لن نتعمق أكثر هنا، لكن يمكن الإشارة فقط إلى أن هذه المنظمات هي ممولة من رجال أعمال وشخصيات اعتبارية عشائرية أو حزبية محلية. مع ذلك نقدر حقيقة أنه في الأزمات الكبرى هناك دور ووجود طبيعي لرأسماليين وطنيين يؤمنون بالدولة. لكن يجب أن لا يتجاوز استثمارهم الشخصي لموقعهم دور المؤسسة العسكرية ومركزيتها ورقابتها، وعدم الإخلال بالقوانين الناظمة. مع تأكيدنا أن عدداً من قادة هذه المنظمات قد دخل فعلياً في دائرة أمراء الحرب، وأصبحوا ظاهرة فعلية وخطيرة للفساد والانتهازية.