الحزب الشيوعي رأس حربة في المقاومة والتحرير والتغيير الديمقراطي
تأتي الذكرى السادسة عشرة لتحرير جنوب لبنان من الاحتلال الإسرائيلي وعملائه، والمنطقة تعيش زمن تحولات كبرى ترتسم فيها خرائط المنطقة بالدم والبارود، ما يعيدنا مجدداً إلى لحظة مجيدة حين قررنا نحن كحزب صغير يمثل نبض الناس أن نقاوم المشروع الصهيوني الذي كان يعتقد الكثيرون أنه من المستحيل هزيمته.
اليوم في عام 2016 يشارك العالم بكل أقطابه في عملية إعادة رسم الحدود بين دولنا العربية، بعد أن كان قد رسمها لنا في اتفاقية سايكس – بيكو من دون أن تكون لنا القدرة على المشاركة في تحديد مصير أوطاننا، فتعود بنا الذكرى إلى يوم 16 أيلول من عام 1982 حين أطلق الرفيقان المناضلان جورج حاوي ومحسن ابراهيم بيان تأسيس جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية، ليس على سبيل التذكر العاطفي فحسب، على أهميته، وإنما لتعيدنا إلى لحظة ثورية فذة يصنعها قادة قلائل يلتقطون نبض شعبهم ويسيرون بها إلى الأمام. ولولا تلك المبادرة الشجاعة التي تستلهم من نضالات الشيوعيين وباعهم الطويل في رفض الاحتلال لكان البلد غرق في اتفاقيات مذلة. ولكن ما حصل فيما بعد يدل على صواب خيار حزبنا الشيوعي، فقد شكلت جبهة المقاومة نقطة تحول الوطن ككل وعلى مستوى تحديد خيارات قوى أخرى، لتنخرط الدولة كلها في خيارات المقاومة بالمعنى الحرفي للكلمة.
في 25 أيار من عام 2000 جرجر العدو وعملاؤه أذيال الخيبة منسحبين من الجنوب، وفي هذه الذكرى أجدني أستذكر صباح يوم 24 أيار حين لامتنا قيادة الحزب حينذاك على حماستنا الثورية التي قادتنا أنا ورفاق لي للمشي سيراً إلى معبر زغلة حين بدأت تتوارد أخبار بدء انسحاب جيش الاحتلال الإسرائيلي، ومن ضمن ما قمنا به، الدخول إلى منزل العميل أنطوان لحد في سلوك رمزي لتحريره من دنس وخيانة رأس العمالة ورمزها، في حينها. لم يكن لأحد أن يحدّ من تلك الاندفاعة للمشاركة في لحظة الانتصار التي صنعناها وشاركنا بدمائنا وشهدائنا وأسرانا فيها.
في هذه اللحظة التاريخية تنشّقنا معنى الانتصار، ولم نكن بحاجة إلى أوامر قيادية ولا إلى عقد اجتماعات لندرس آلية اتخاذ القرار… هذه اللحظة التي سبق لنا أن سددنا ثمنها من أعمار كوكبة كبيرة من شهدائنا وأرواحهم ودمائهم تستحق هذا العناء. مقاومتنا أيها الرفاق، شكلت نقطة مضيئة في حياة الشيوعيين على مختلف مستوياتهم. انخرطوا وتطوعوا فيها بالمئات وكانوا ممتلئين بالحماس والشجاعة على الرغم من صغر سنهم، لا يهابون الموت الذي قد يتعرضون له في أي لحظة.
يقاومون باللحم الحي بسبب ضعف الإمكانيات المادية، ولا يسألون لا عن بدل مادي ولا ينتظرون لقاء عملهم أي مقابل. ولقد تمكنوا بإرادتهم وعزيمتهم النضالية من تنفيذ أخطر العمليات وأعقدها في مواجهة المحتل، بشجاعة وبسالة نادرين موقعين خسائر بشرية ومادية فادحة بالعدو.
لا بد من القول هنا إن التاريخ يسجل لمقاومتنا الوطنية أنها نفذت آلاف العمليات العادية والنوعية، وقد ضمت في صفوفها رفاقاً أعزاء من جميع الطوائف والمناطق اللبنانية، من عرسال والشمال وأعالي الجبل إلى بيروت والبقاع ومختلف قرى الجنوب كانوا يتوافدون بروح نضالية عالية.
كذلك يفاخر حزبنا بانخراط النساء في عملنا العسكري المقاوم بنسبة عالية، من سهى بشارة الرمز إلى وفاء نور الدين إلى لولا عبود ويسار مروة وغيرهن كثيرات ممن لم تذكر أسماءهن وسائل الإعلام، واعتقلن وعذّبن كما سائر رفاقهن من الذكور. وهنا لا بد من التنويه بأن الحزب طوال عمله حافظ على نقائه ولم يتلوث بعملاء في صفوفه ما أمّن لعملنا نسبة نجاح عالية.
لم تقتصر مقاومة الاحتلال الإسرائيلي على العمل العسكري فقد تشكلت مقاومتنا المدنية في الشريط الحدودي المحتل لكل أشكال التطبيع، وكان كل شيوعي مقاوماً في موقعه، الصحافي في الإذاعة والجريدة يكتب ضد الاحتلال كان مقاوماً، الشاعر في قصيدته كان مقاوماً، الأستاذ في صفه كان مقاوماً، الأم في تربيتها لأولادها كانت مقاومة تربي جيلاً.. وبكل هذه المقاومة صنعنا النصر والتحرير.
لا بد لنا من ذكر العشرات من الجنود المجهولين من الرفاق والرفيقات الذين قاوموا ولم يستشهدوا أو يؤسروا فلم يسلّط الضوء الإعلامي على تجربتهم الفذة، فهؤلاء يستحقون التحية أسوة بغيرهم ممن أضيء على تجربته عرفاناً بالجميل ولدورهم البطولي في إنجاز التحرير. وها نحن اليوم نتذكر بفخر تلك المرحلة الرائعة من الثمانينيات حين خاض حزبنا تجربة ناصعة البياض من تاريخه، رفعت اسم حزبنا عالياً وجعلت منه محط اهتمام القوى الإقليمية والخارجية وبعضها محلية، فسعت إلى تحجيمه بطرق مختلفة، فواجه معوقات أدت إلى توقف عمل جبهة المقاومة. ولقد قامت قوى أخرى بمتابعة هذه المهمة منفردة تحت مسمى المقاومة الإسلامية حتى تحقق الانتصار الذي لا يمكن لأحد أن يزوّر دورنا الكبير في صنعه.
ذكرى التحرير هذا العام تأتي غداة مؤتمرنا الحادي عشر، وهو مفصلي لعدة اعتبارات منها:
أولاً- إن غالبية الشيوعيين منكفئين عن العمل الحزبي أو مفصولين بموجب قرارات وعلينا تقع مهمة لم شمل وجمع الرفاق ودرس أوضاعهم.
ثانياً- إن وجود حزب شيوعي قوي كأداة تغيير للواقع المزري في البلد هو حاجة وطنية كبرى.
ثالثاً- انهيار مؤسسات الدولة كافة تملي علينا واجب القيام بجهد كبير في إطار استنهاض الحالة الديمقراطية في البلد لتداول حقيقي في السلطة.
فلنجعل من نتائج مؤتمرنا الحادي عشر بداية لنهاية أزمة حزبنا وتحويلها إلى فرصة لإحداث نقلة نوعية في خطة حزبنا وبرنامج عمله، حزبنا الذي لم ولن يكون يوماً إلى جانب أنظمة التسلط والاستبداد تحت أي ذرائع.
علينا الاستفادة من خبرات كل الشيوعيين الذين مروا في هذا الحزب وفي الوقت عينه التركيز على دور الجيل الجديد من الشباب في بلورة خطاب عصري يحاكيهم ويلبي طموحاتهم بالاستناد إلى تطوير فكرنا الماركسي ليتلاءم مع المتغيرات الكبرى التي عصفت بهذا العالم.
كل هذا لا يكون إلا باستعادة مفكرينا ومثقفينا الذين توزعوا على أهم مؤسسات البلد ليغنوا ورش النقاش التي ينبغي فتحها بمناخ من الحرية المطلقة… وألا نكون حكمنا على أنفسنا بالجمود في عالم كله يتغير.
كنا ولا نزال حزباً مقاوماً، ما أحوجنا اليوم إلى مقاومة محاولة السلطة لتمرير قانون يعيد إنتاج هذه السلطة.
كنا وما زلنا حزب مقاومة كل أشكال الفساد في السلطة حتى تبقى لأولادنا موارد.
كنا وما زلنا حزب مقاومة كل أشكال الظلم ضد الفئات الاجتماعية المهمشة من عمال وصغار كسبة وعاطلين عن العمل ومزارعين وأساتذة وموظفين وكل ذوي الدخل المحدود.
والأكيد أننا حزب مقاومة كل أشكال الهيمنة على قرار حزبنا المستقل والنابع من حاجات شعبنا، ذلك القرار الذي يراعي من ضمن ما يراعي شركاءنا في الوطن دون تبعية أو استزلام.
ألف وردة وتحية لشهدائنا الأبرار ولعائلاتهم ولأسرانا المحررين ولكل من ساهم في صنع التحرير.
كمال البقاعي
نائب الأمين العام للحزب الشيوعي اللبناني
مجلة النداء – العدد 290