يصنعون السياسة من المال
تحول العالم بعد تسيّد الليبرالية الاقتصادية الجديدة، منذ نهاية حقـبة الثمانينيات من القرن الماضي إلى مرتـع فسـيح للرساميل ذات الأرقام المؤلفة من تسعة أصفار أو أكثر، فراحت تجوب الأرض من أقصاها إلى أقصـاها باحثة عن توظيفٍ في مصرف أو شركة تأمين كبرى… أو بناءٍ لمصنع حيث المواد الأولية والعمالة الرخيصة، أو سوق ملائم للبضائع أو أوراق المال، وقد وصلت المنافسة بين حكام الاقتصاد العالمي إلى حد (الضرب تحت الحزام) تأميناً لمصالحهم وزيادة عوائدهم، ولأن كبرى الشركات العالمية قد شكلت حلفاً، من خلال التبرع للحملات الانتخابية، مع حكوماتها ومراكز الثقل السياسي وصنع القرار، فقد تشابكت مصالح الساسة في تلك الدول مع مصالح الشركات الكبرى متعـددة الجنسية، وأصبح الحصول على مكاسب لتلك الشركات على رأس مهام تلك الحكومات، كما أصبح دعم الحكومات المتعاونة بنداً أساسياً في جداول أعمال الشركات العملاقة في العالم.
لم يعد الهدف هو الاتحاد السوفييتي.. لقد انهار جدار برلين، وانهارت معه حقبة طويلة اتـسمت بحرب باردة بين القطبين الرئيسين، وتحول العالم من ثنائية القطب.. إلى عالم القطب الأوحد، لكن نظام المراقبة (التجسس) الذي أقامته الولايات المتحدة وبريطانيا، وفيما بعد كندا وأستراليا ونيوزيلندا لمراقبة عمليات التسلح العسكري للاتحاد السوفيتي، والذي اصطلح على تسميته بكلمة (إيشيلون) لم يُحَل على التقاعد, بل تحول إلى نظام للتجسس السياسي والاقتصادي ECHELONلمراقبة النشاطات التجارية لشركات تنتمي إلى بعض حلفاء الولايات المتحدة وبريطانيا(1).
وبعد التطور التكنولوجي الهائل الذي طرأ على الصناعات الإلكترونية والبرمجية، أصبح إيشيلون قادراً على أداء مهام جديدة تتمـثل في التقاط أي كلمة تنقل بواسطة الهاتف أو الفاكس أو البريد الإلكتروني في أرجاء العالم المختلفة، وهكذا أصبحت مكالمات كبريات الشركات العالمية ورسائلها وأسرارها في متناول المركز، وبالتالي في متناول القادة الكبار في أمريكا وبريطانيا.
لذلك لجأت الحكومتان الأمريكية والبريطانية إلى الخدمات التي يوفرها إيشيلون لتأمين الصفقات لشركاتها بطرق لا تمت إلى الأخلاق بصلة، وذلك عن طريق الحصول على المعلومات والأسرار للشركات المنافسة، ضاربتَين عرض الحائط بالاتفاقيات الدولية، والأعراف السائدة في عالم التجارة.
لقد نشر البرلمان الأوربي تقريراً يشتمل على معلومات خطيرة تؤكد سرقة الشركات الأمريكية لعقود كانت موجهة لشركات أوربية وآسيوية، بمساعدة مركز إيشيلون، عن طريق اعتراض أحاديث.. ومعلومات حوّلها إلى الشركات الأمريكية لتستخدمها في سرقة تلك العقود، وهكذا جرى في عام 1995 تحويل المعلومات للشركات الأمريكية عن مشروع عقد لإنشاء نظام مراقبة عن طريق القمر الصناعي بين الحكومة البرازيلية وشركة (تومسون) الفرنسية بقيمة 1.5مليار دولار، وقد تضـمنت تلك المعلومات المحادثات الهاتفية ورسائل الفاكس التي تحتوي على المواصفات، وأيضاً وعود الرشوة للمسؤولين البرازيليين، مما أدى في النهاية إلى صرف النظر عن العرض الفرنسي والتعاقد مع الشركة الأمريكية (رايتيون)(2).
في عام 1993 قامت وكالة الأمن القومي شريك مركز إيشيلون باعتراض محادثات ومراسلات جرت بين الحكومة السعودية، واتحاد الشركات الأوربية (إيرباص) لشراء طائرات لصالح الخـطوط الجوية السعودية بقيمة خمسة مليارات دولار، وقد ساعدت تلك المعلومات شركة بوينغ وماكدونالد دوغلاس الأمريكية على الفوز بالصفقة واستبعاد العرض الأوربي. وفي عام 1999طورت الشـركة الألمانية (إينيركون) اختراعاً سرياً لتوليد الطاقة الكهربائية من الرياح بكلفة تقل كثيراً عن السابق، لكنها فوجئت عند تسويقها هذا الاختراع في الولايات المتحدة بأن شركة (كينيتش) الأمريـكية
قد سجلت براءةً لاختراع مماثل تماماً، وذلك عن طريق المعلومات المسربة إليها من وكالة الأمـن القومي، وهكذا أصبح (إيشيلون وشركاه) بعبعاً للشركات الكبرى في أوربا وآسيا، مما جعل الكثيرين من رجال الصناعة في ألمانيا مثلاً يناقشون قضايا التطوير والتحديث لمنتجاتهم أثناء مسيرهم في الغابات ليضمنوا السرية لمشاريعهم المستقبلية، وقد قدر خبراء الأمن في ألمانيا أن تجسس الصناعة الأمريكية قد كلفت الصناعة والتجارة الألمانية عند عام 2000 خسائر سنوية لا تقل عن عـشرة مليارات دولار عن طريق سرقة الاختراعات ومشروعات التطوير، وقد عبرت (مادلين أولبرايت) وزيرة الخارجية عن تدخل السلطات الأمريكية بشكل سافر وعلني لصالح شركاتها الكـبرى، في بيانها أمام الكونغرس في جلسته بتاريخ 8/ 1 /1998، فقالت: إن المنافسة في أسواق العالم حادة، ومسؤوليتنا هنا ضمان الاهتمام بالشركات الأمريكية، وسفاراتنا في العالم مفتوحة لرجال الأعـمال الأمريكيين للتشاور معنا، وطلب العون منا(3).
بعد ما تقدم، هل يمكن اعتبار دعوة الولايات المتحدة إلى تحرير التجارة العالمية من كل القـيود دعوة بريئة تهدف إلى تبادل المنافع بين دول العالم…؟ وهل يشكل تدخلها المباشر في فرض أنظمة وتوافقات (توافق واشنطن- على سبيل المثال) على الدول النامية مساعدة لتلك الدول لتحرير تجارتها والاندماج في الاقتصاد العالمي…؟ أم أنها تنطوي على تهيئة (المسرح) لشركاتها الكبرى لغزو التجارة العالمية مسلحة بالدعم الحكومي المالي…. وبالمعلومات المسروقة بفعل نشاط مراكز التجسس على شاكلة إيشيلون والشركاء الآخرين…؟
إن استفادة الدول النامية من أفضليات التجارة العالمية والأسواق الكونية المفتوحة مرهون بالوضع الاقتصادي لهذه الدول، وبعملية التنمية الجارية فيها، فالدول التي فتحت أسواقها دون أي مراقبة على الرساميل الأجنبية والاستثمارات المرتبطة بها، تعرضت لأزماتٍ وهزاتٍ دفعت شعوبها ثمناً غالياً لتجاوزها، كما حدث مع (النمور الآسيوية) و(المكسيك).
******
المراجع
1- نظام المراقبة الشاملة على الاتصالات – د.مازن المغربي.
2-صحيفة دايلي تلغراف – 16/12/1997.
3- السيطرة الصامتة – نورينا هيرتس -.