تقرير حول اقتصادات العالم في 2050

نشرت شركة (رايس ووترهاوس كوبرز) المعنية بالشؤون الاقتصادية، مؤخراً تقريراً تضمن ترتيب الاقتصادات الأقوى في العالم بحلول عام 2050. وفي التقرير، الذي حمل عنوان (رؤية بعيدة: كيف سيتغير الاقتصاد العالمي بحلول عام 2050؟)، درست (برايس ووترهاوس كوبرز) اقتصادات العالم وقامت بترتيب 32 اقتصاداً استناداً إلى الناتج المحلي الإجمالي، بحسب تعادل القوة الشرائية (PPP).

وقال التقرير إن اقتصادات البلدان النامية ستهيمن على الاقتصاد العالمي بحلول عام 2050، حين سيكون نمو الاقتصاد العالمي مدفوعاً ببلدان كالبرازيل والصين والهند وإندونيسيا والمكسيك وروسيا وتركيا. والمفاجأة، أن الشركة تتوقع أن تتراجع الولايات المتحدة، التي تعد أقوى اقتصاد في العالم، بحلول عام 2050 إلى المرتبة الثالثة عالمياً، بعد الصين، التي ستتصدر العالم، والهند، التي ستحل في المرتبة الثانية.

واللافت أيضاً في التقرير أن إندونيسيا ستتقدم من المرتبة الثامنة في 2016 إلى المرتبة الرابعة في 2050، إذ سيبلغ حجم اقتصادها نحو 10.5 تريليونات دولار.

وبحسب التقرير، فإن دولتين عربيتين فقط ستكونان ضمن الاقتصادات الأقوى عالمياً في 2050، وهما السعودية ومصر، إذ سيحلّ الاقتصاد السعودي بحجم ناتج محلي إجمالي عند نحو 4.69 تريليونات دولار في المرتبة الـ 13 عالمياً، ومصر، التي تعيش حالياً أزمة اقتصادية خانقة، ستحلّ في المرتبة الـ 15 عالمياً.

وتقول (برايس ووترهاوس كوبرز) إن حجم الناتج المحلي الإجمالي المصري سيصعد من 1.105 تريليون دولار في عام 2016، إلى 4.333 تريليونات دولار في 2050. وجاء في التقرير أن الاقتصاد الروسي سيتجاوز في عام 2050 اقتصادات دول أوروبية رائدة كألمانيا، وبريطانيا، وإيطاليا، إذ تتوقع الدراسة أن يبلغ حجم الناتج المحلي الإجمالي لروسيا آنذاك نحو 7 تريليونات دولار.

وفي عام 2050، ستخرج ألمانيا من نادي أقوى خمسة اقتصادات في العالم، إذ ستتراجع إلى المرتبة الـ 9 عالمياً، بعد أن كانت تحتل المرتبة الـ 5 عالمياً في 2016، في حين ستحل المملكة المتحدة في 2050 في المرتبة الـ 10 عالمياً.

أين الرفاه..؟

في عقد الستينيات الذهبي، عبّر الرئيس جون كنيدي عن التطلع إلى الرفاهية المتزايدة للجمهور الأمريكي الواسع بعبارة وجيزة، وصيغة خالية من التعقيد: (عندما يرتفع سطح البحر فسترتفع معه جميع السفن الطافية على المياه أيضاً). إلاّ أن الليبرالية الجديدة في عهد ريغان خلقت نهجاً اقتصادياً يتناقض وهذه الصورة المجازية، فارتفاع سطح البحر لم يرفع جميع السفن، لقد ملأت الثقوب أجسام كثير منها، فغرقت.. وانفردت بعض السفن الكبرى بإدارة الاقتصاد الأمريكي والعالمي، وأملَت شروطها على القادة السياسيين واضعةً قواعد جديدة لمرحلة بدايتها في ثمانينيات القرن الماضي، أما نهايتها فيدخل في الماورائيات.

لقد ارتفع الناتج الإجمالي في الولايات المتحدة بين عامي 1973 – 1994 بمقدار الثلث، (لكن ثلاثة أرباع العاملين أصبحوا يحصلون على أجر يقل بنسبة 25% عما كان سائداً قبل عشرين عاماً، وذهب فائض النمو المتحقق إلى الخُمس الثريّ في المجتمع الأمريكي، لقد تسيّد هذا المجتمعَ مبدأٌ قوامه: (الرابح يحصل على كل شيء- .(the winner takes all

لقد انتشرت حمّى خفض التكاليف بالنسبة لجميع الصناعات الأمريكية، ولأن التطوير التكنولوجي يكلف الكثير من النفقات ليتساوى مع التطور الحاصل في الصناعات اليابانية المنافسة، فقد لجأت الشركات الأمريكية إلى طريقتين لخفض تكاليفها، الأولى تتمثل في عقود للعاملين لمدة محددة… وعقود أخرى لا تتضمن راتباً ثابتاً بل مكافأة تختلف من حالة إلى أخرى.. وهكذا بلغ عدد العاملين المشمولين بتلك العقود خمسة ملايين عامل، وهم طاقات احتياطية لدى الشركات الكبرى تستخدمهم وتردّهم إلى الشارع عندما يتطلب السوق ذلك، والطريقة الثانية هي هجر الوطن باتجاه آسيا وأمريكا اللاتينية بحثاً عن الأجر المنخفض والتخلص من النفقات الاجتماعية والبيئية المكلفة في بلادهم، فعمالقة صناعات الأحذية مثل (نايكي)، وألعاب الأطفال مثل (مارتل)، أصبحوا مستوردين لبضائعهم من منتجين آسيويين، ومصدّرين لبضائع أخرى تنتجها معاملهم المنقولة إلى هذا البلد أو ذاك، فمن إندونسيا.. إلى بولندا.. إلى المكسيك، تنتشر تلك المعامل في ظل حرية نقل الرساميل، ويعمل نصف مليون عامل مكسيكي حالياً بأجر لا يزيد عن خمسة دولارات يومياً، أي بأجر لا يسدّ الرمق، ودون أي تأمين صحي أو ضمان اجتماعي(1).  

أما الحكومات.. تلك التي أصبحت سياساتها الاجتماعية في عالم النسيان، فقد حاولت اتخاذ بعض التدابير الهادفة إلى عودة المساواة الاقتصادية والاجتماعية، لكن محاولاتها جوبهت بردٍّ عنيف من قبل الشركات الكبرى، مهدّدة… متوعدة، ففي عام 1999 حاول أوسكار لافونتين، وزير المالية الألماني رفع العبء الضريبي على أرباح الشركات بعد أن هبط هذا العبء بنسبة 50% خلال العشرين سنة الماضية، لكن دوتش بنك وشركة ب. م.ف لصناعة السيارات ومجمع التأمين اليانس وشركة ديملر بنز – يشكل هؤلاء عماد الاقتصاد الألماني – هددوا بنقل استثماراتهم ومصانعهم إلى بلدانٍ أخرى، إذا لم تتراجع الحكومة عن محاولاتها زيادة الضريبة على أرباحهم، وانتهى الأمر باستقالة  لافونتين، وفي قرننا الجديد تقرِّر الشركات الكبرى مقدار ما تدفع من الضرائب.. وأين تدفعها، فهي تستقر في بلد منخفض الضرائب، ووسائل إنتاجها في مكان آخر، وتبيع بضائعها من مكان ثالث وهمي لاتصل إليه الإجراءات الحكومية، فإمبراطورية روبرت ميردوخ الإخبارية التي بلغت أرباحها في بريطانيا بين عامي 1987- 1999 ما يعادل 2.3 مليار دولار، لم تدفع هناك أي ضريبة، ولم تتجاوز الرسوم التي دفعتها في العام أكثر من 6% من الأرباح.

إن الحكومات تواجه خيارين متكافئين في صعوبة التطبيق، فهي لا ترغب في خسارة دعم الناخبين الكبار من أصحاب الشركات العملاقة برفعها لمعدلات الضريبة، ولا تستطيع زيادة الإنفاق الاجتماعي بسبب تواضع مساهمة الضرائب في إيرادات الخزينة، والخوف من انتقاد الفعاليات الاقتصادية المؤثرة لها بأنها تتدخل في آليات السوق، وفي كثير من الأحيان تلجأ الحكومات إلى توجيه رعايتها إلى من لا يحتاجها… ففي الولايات المتحدة تبلغ المساعدات السنوية التي تقدمها الإدارة الأمريكية للشركات 75 مليار دولار، في حين أصبح الضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل مشروطاً أكثر، ولا يستفيد من منح البطالة اليوم إلّا 29% من العاطلين عن العمل، بينما كانت 70% في عام 1986(2).

لقد أدى هذا الانحدار الخطير في وظيفة الدولة الاجتماعية إلى تزايد عدد الأمريكيين الذين يعتقدون بعدم صوابية هذا التوجه، وبضمنهم أولئك الذين ينتمون إلى (الطليعة البيضاء) الثرية، فقد كان (إدوارد لوتوك)، الاقتصادي البارز لدى المحافظين الجدد في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية، من أكبر دعاة الحرب الباردة فيما مضى، لكنه تحول إلى أكثر نقّاد التوجه الاقتصادي الجديد شدة، فهو يرى (أن ما تفرزه الرأسمالية في عصر الليبراليين الجدد هي في واقع الحال نكتة خبيثة، فما كان يزعمه الماركسيون قبل مئة عام أضحى الآن حقيقة، فالرأسماليون يزدادون ثراءً، والطبقة العاملة تزداد فقراً، وأن المنافسة المعولمة تطحن الناس طحناً، وتدمر التماسك الاجتماعي)(3).

إنها الليبرالية الجديدة… السيطرة الشاملة للرأسمال المنفلت من كل القيود الاقتصادية والاجتماعية، والساعي إلى المجتمع الكوني الذي يمثل الخمس الثري، أما الأخماس الأربعة الأخرى، فعليها أن تتلقّى من حكوماتها العاجزة وسائل البقاء، بطريقة التنقيط.

*********

المراجع

1 – هيرالد تريبيون الدولي – تشرين الثاني 1995.

2 – الإيكونوميست – أيار 1997.

3 – بيتر مارتين وهارالد شومان – فخّ العولمة. 

العدد 1136 - 18/12/2024