حول الواقع والتكون المعرفي
إن تكوّن الوعي المعرفي في البلدان العربية والإسلامية، هو عملية تدريجية ومتصاعدة ومتطورة بصورة مستمرة، وهي تعكس العلاقات السائدة، وهذا أمر طبيعي حصل ويحصل في كل المجتمعات. وباختصار: إن العلاقات السائدة، في بلداننا، هي علاقات زراعية تجارية عكست بناءً فوقياً يعبر عن مستوى تطورها، ومن هنا يمكن فهم سيطرة الفكر البطريركي في مجتمعات الشرق المتخلف.
وعلى الرغم من أن بناء فوقياً جديداً تلوح معالمه اليوم، وهو يعبّر عن مجتمع صناعي ولكنه من حيث تأثيراته المجتمعية، لا يزال غير قوي، ويبدو ذلك واضحاً من خلال تجليات الفكر الإلغائي القوية، والدليل على ذلك هو حدة الصراعات السياسية الجارية في المنطقة حالياً ودمويتها.
إن الفئات الاجتماعية هي نتاج تطور تاريخي لا يمكن إلغاؤها بقرار، وبالتالي، لا يمكن إلغاء ممثلي هذه الفئات أيضاً بقرار. إن التطور المجتمعي التاريخي، هو الوحيد الكفيل بإزالة أو استمرار هذه الفئة الاجتماعية أو تلك.
أو هذا الحزب السياسي أو ذاك. وإن مآسي البلدان العربية والإسلامية، أو على الأقل، جزء كبير منها، يعود إلى هذا الفكر الإلغائي. على سبيل المثال:
يأتي نظام سياسي جديد، فيعمل لإزالة الخصوم السياسيين الذين يمثلون مصالح مجتمعية، معتبراً نفسه أنه هو الذي يحدد مسار التطور في البلاد.
وهذا يؤدي إلى خلق أسس مجتمعية داخلية للتبعثر. إن مثل هذه القرارات، هي مجافية لمنطق التاريخ.
إن العملية الديمقراطية لها طابع مجتمعي، فهي تعكس مستوى محدداً من مستويات التطور المعرفي، وأحد شروط هذا الفكر الديمقراطي، هو في الحقيقة، اقترانه بالممارسة، إذ لا يكفي لهذه الفئة السياسية أو تلك، أن ترفع شعار الديمقراطية كي يقال عنها إنها ديمقراطية بالفعل..
لقد أصبح شعار الديمقراطية موضة العصر، وسبب ذلك لا يعود إلى نضجه مجتمعياً في بلدان المنطقة، وإنما لأنه أصبح يقترب من النضج على المستوى العالمي بصورة عامة.
بيد أن الممارسة التي تجري في العالم العربي والإسلامي هي معاكسة ومناهضة لهذا الفكر. ومن هنا تنشأ الازدواجية التي هي سمة أساسية من سمات الأنظمة السياسية في البلدان العربية.
إن جوهر الفكر الديمقراطي، لا يكمن في إلغاء رأي أو استبدال رأي آخر به. إنه يكمن في الاعتراف بوجود آراء واتجاهات مختلفة حتى ولو كانت متضادة أو متعاكسة في الاتجاهات.
إن للفكر الديمقراطي منظومة كاملة، لها، فهو يتضمن حرية الرأي، حرية الصحافة، حرية تكوين المنظمات الجماهيرية والأحزاب السياسية. وكذلك حرية المعتقد الديني والسياسي والفكري.
ويعني أيضاً، تداول السلطة، والاعتراف بوجود جميع مكوّنات الشعب.. وعزل الدين عن الدولة: (الدين لله والوطن للجميع). تلك هي منظومة الفكر الديمقراطي.
إنها لا يمكن أن تنشأ بأوامر. إنها تعكس، كما قلنا، مستوى التطور المجتمعي الذي لم تصل إليه البلدان العربية وغالبية البلدان الإسلامية، كما أعتقد.
من هذا المنطلق، تكمن أهمية دور القوى السياسية الأكثر علمية والأكثر نضجاً في هذه البلدان. وهذا يتطلب من حيث الجوهر، حسب ما أرى، من الأحزاب والحركات السياسية، بالحد الأدنى، مراجعة نقدية لمواقفها من مسألة الديمقراطية، لما لهذه المراجعة من أهمية بالغة يتوقف عليها مستقبل هذه الفئات والأحزاب، ويجب على هذه القوى، من وجهة نظري، أن تقيّم دورها التاريخي تقييماً موضوعياً فيما يتعلق بتكون الفكر الديمقراطي في بلدانهم، لأن معرفة ذلك تؤدي إلى إمكانية تقويم دور هذه الفئات تاريخياً.
وهذا الأمر هام جداً للمستقبل. إن أهم قضية يجب التخلص منها حسب اعتقادي هي الازدواجية في الفكر.. وذلك باقتران النظرية مع الممارسة، الأمر الوحيد الذي يعطي لهذه الحركات مصداقية هي بحاجة ماسّة إليها كي تصبح قادرة على لعب دور تاريخي في هذه المرحلة من مراحل التطور الاجتماعي والسياسي في هذه البلدان.
كما أن إحدى أهم المهمات المطروحة، هي العمل من أجل توحيد القوى العلمانية للوقوف بوجه جبهة الظلام التي أصبحت تشكل خطراً جدياً على البلدان العربية والإسلامية، والتي ستؤدي في حالة انتصارها إلى تبعثر هذه البلدان وتقسمها، وإعادتها إلى ماض سحيق لم يعد له مكان في هذا العالم.