ندوة الثلاثاء الاقتصادي (جبلة)

كانت أول ندوات ملتقى الثلاثاء الاقتصادي التفاعلي العاشر الذي يقيمه فرع اللاذقية لجمعية العلوم الاقتصادية بعنوان (الأجور وتكاليف المعيشة). وقد كانت ندوة صاخبة أخرجت ما يعانيه أغلب الشعب من معاناة اقتصادية نتيجة تعقيدات الأزمة ومفاعيلها الداخلية والخارجية، فقد كان عنوان الإسقاط الاقتصادي واضحاً من خلال الحصار والعقوبات الاقتصادية ومن خلال استثمار بعض دواعش الداخل.

بدأت الندوة بالوقوف دقيقة صمت إجلالاً للدم السوري الواحد المقدس، ثم بدأ د.سنان علي ديب الحديث عن الموضوع مفتتحاً الكلام بأن الكل متأكد من تأثير الأزمة المعقدة على الوضع في سورية ومنها الاقتصادي والاجتماعي، ولو أن هذه الأزمة ضربت أي بلد في العالم لانهار، ولكن بفضل التكامل والتضامن بين الشعب والمؤسسة العسكرية صمدت سورية، ولكن هذا لا يعني أن التأثير على الوضع الاقتصادي كان بمفاعيل خارجية، ولكن كان هناك ثغرات وأخطاء، المهم أننا يجب أن نعلم أن إدارة الأزمة كانت وفق برامج تفضيلية مرحلية، الهم الأكبر الأول هو الحفاظ على سورية والتغاضي عن بعض الثغرات وتأجيل مواجهتها، ومنها الفساد الذي استفحل في الأزمة، وكذلك مستوى معيشة المواطن الذي تعرض لانتكاسات خطيرة، ولم تكن الأزمة فقط هي السبب، وإنما كانت السياسات الاقتصادية الاجتماعية قبل الأزمة، إذ حابت قلةً علناً لأغراض انقلابية بالخفاء، واستمر المئات من كوادر النهج الذي انقلب على مقررات حزب البعث في المؤتمر القطري العاشر ليقلب هذا الانقلاب البنى الصلبة ويهشم الطبقة الوسطى، التي نجمت من سياسات اقتصادية اجتماعية بناءة وإن عابها ثغرات بسيطة، فطبقة وسطى تشكل 90 % هي نتيجة أمن غذائي متكامل وفق بنى تضمن استمراريته قمحاً ومخزوناً، قطناً وفائضاً، شوندراً، سدوداً، طرقاً زراعية، دعماً حكومياً بتأمين المستلزمات وشراء المحاصيل، وكذلك صناعة تحويلية نسيجية غذائية بتروكيميائية وغيرها، ومقومات سياحية، بنى تعليمية وصحية، أمن وأمان، إلى أن جاءت (الدردرة)، التي همّها سحب يد الدولة من إدارة الاقتصاد وقتل القطاع العام وتفقير الناس وخصخصة كل شيء، وتحرير التجارة ورفع الرسوم والضرائب، التي مازالت مستمرة إلى الآن فأصبحت الطبقة الوسطى قبيل الأزمة60 % وهجر مئات الآلاف من أراضيهم وأحاطوا بالمدن كدمشق وحلب واللاذقية. قبل الأزمة قدِّر ما تحتاجه أسرة مكونة من 5 أشخاص بنحو 30 ألف ليرة، وكان متوسط الأجور 12 ألف ليرة سورية ولكن وسط المعطيات والمداخيل الأخرى وعدد العاملين في الأسرة كانت نسبة الفقر رغم الارتكابات المقصودة 15-17% ورغم الأرقام المضللة التي كانوا يضخونها لاستمرارية السير ببرنامجهم، وبعد دخول الأزمة ومفاعيلها أصبحت الأسرة بحاجة إلى نحو 280 ألف ليرة سورية لتكون على حواف الطبقة الوسطى التي لم يبق منها إلا 10 % فقط نتيجة الأوضاع الاقتصادية والموت والهجرة والنزوح والفقر الذي أصاب 90 % من الشعب، وهذه موزعة على تأمين ما بين 2100- 2700 حريرة من الغذاء واللباس والتعليم والصحة، اللذين أصبحا مأجورين ويكلفان الكثير، وتدنّت الجودة والنقل والاتصالات، وفق تطور غير مسبوق ومبرمج بالنسق الاستهلاكي الغريزي قبل الأزمة.

لقد أثرت الأزمة على المعروض من السلع نتيجة الدمار والتهديم وخروج عشرات المعامل، ونصف الأراضي، وملايين الأبنية والمستشفيات، والحصار والعقوبات بتكلفة تقدر بـ350 مليار دولار، وهو ما يدل على قوة البنيان السوري قبل الأزمة، وكذلك كان لخروج مدن عن السيطرة ونزوح أكثر من 7 ملايين وهجرة 5 ملايين تأثير على الطلب، هذا النزوح ضغط على الخدمات في المدن المستقبلة، كذلك كان للخطوط الائتمانية دور في زيادة العرض، ولو شابها بعض الثغرات، وكذلك كانت التحويلات التي اقتربت من 1.5 مليار دولار محركاً للطلب، وكانت المنافذ غير النظامية أسلوباً رغم مساوئها من خلال التهرب الضريبي وغيرها لتأمين الكثير من السلع، وقدّر بنحو 1.5 مليار دولار من تركيا ونصف مليار من لبنان، وكان الاتجاه الحكومي نحو التقشف الإلزامي عبر سياسات معلنة وغير معلنة، وعبر عدم التمكن من فرض توعية تقشفية لعدم وجود حكومة أزمة أو حكومة عسكرية، تفرض هذه الأمور.

وقد ترافقت الأزمة بثلاث سياسات لم تخلُ من الثغرات: سياسة نقدية غير واضحة، تعاكس مجريات الأحداث، هادفة إلى سعر صرف ضعيف لليرة السورية غير مبرر، وفق إجراءات نقدية معاكسة لما يجب أن يكون، وتقلبات جعلت الدولار يستقر بنحو 520 ليرة سورية رغم انخفاضه عندما ترك لحرية السوق إلى نحو 300 ليرة سورية، ولكن ما الدافع المؤكد؟ لا نعلم علماً، وما سبّبه هذا السعر من تضخم وصل إلى حدود 1200 % وكان دافعاً لارتفاع مستمر للأسعار. وما زالت هذه السياسة مستمرة وكان كل انتصار يترافق برفع لسعر الصرف بدلاً من تخفيضه، وكذلك كان موضوع الأسعار فوضى تصريحات تنظيرية، زيادة الرشا، دور مبتور لمؤسسات التدخل، التي كانت تحابي التجار وتتدخل لفرض أسعارهم، تحرير أسعار المحروقات، مضاعفة الرسوم والضرائب عشرات المرات، كل ذلك أدى إلى مستوى أسعار أفقر الشعب، وما زالت هذه السياسات مستمرة إلى الآن.

وهنا نقول إن تحصين الداخل ضرورة لأي انطلاقة جديدة، الداخل الذي حاول البعض تقويضه عن احتضان المؤسسة العسكرية للإسقاط الاقتصادي، بعدما عجزوا عن الإسقاط العسكري. وهنا أمام احتمالين إما زيادة الأجور وهو ما لا يحل كل الموضوع بحالات تضخمية غير مقدور على وقفها في ظل الإدارات الحالية والسلوكية الموجودة. والثاني ضبط الأسعار وسياسات نقدية حقيقية تعطي الليرة حقها وفق إمكانات موجودة، وسط إشاعات عن اكتناز الشعب لنحو 50 مليار دولار، ووسط هروب أكثر من 20 مليار دولار للبنان، ووسط احتياطي قبل الأزمة صرح عن 25 مليار دولار، وكلنا يعلم سيرة الأرقام وتضليلها وانعكاسات الأزمات تأتي بعد انتهائها لأن هذا المخزون يخفف منها، كل هذا يؤدي إلى أنه يمكن جعل الدولار بحدود 200 ليرة وأقل بكثير إن أردنا الغوص أكثر. وبالمحصلة الدولار سلعة تتعرض للعرض والطلب الكلي ولا يمكن لثلاثة صرافين مضاربين أن يتحكموا بها في ظل تطبيق القانون. ويترافق هذا مع تسعير إداري متدحرج وسط تفعيل دور مؤسسات التدخل الإيجابي ووزارة حماية المستهلك الداخلة بمرحلة العطالة والتعطيل، ووسط إعطاء الإمكانيات للانطلاقة الاقتصادية الجديدة وخاصة في القطاعات الانتاجية الزراعية والصناعية عبر إصلاح القطاع العام بشكل حقيقي لا تنظيري. وهذا يترافق مع إنعاش شرائي للمواطنيين عبر منح متتابعة وغير متواقتة، وكل ذلك إن لم يصاحب بإصلاح إداري حقيقي يحيط بالفساد ويجعل القانون فوق الجميع سيبقى لا قيمة له، ولا مانع من دور للمؤسسات في دور بناء مدني موازي لفرض القانون فوق الجميع، هذه المؤسسات التي كان هناك هدف من سلب دورها لتقوية نفوذ مالي مافيوي مرتبط انعكس على تطويل الأزمة وتعميقها.

ثم تكلم الاستاذ عبد الرزاق الدرجي عن قوة البنيان السوري عبر اقتصاد متماسك متكامل وعبر سياسات اجتماعية بناءة. وكذلك تكلم الدكتور عمر حج ابراهيم عن السياسات النقدية المعيقة والبعيدة عن الواقع وثغراتها المدمرة للأجور والرافعة للأسعار. وتكلم الأستاذ فاتح بابلي عن رفع الضرائب والرسوم بما يفوق 1200بالمائة ودخول أكثر من 450 مليار ليرة، ورغم ذلك لم ترفع الأجور. وتكلم الأستاذ أكرم ماخوس عن ماهية الأجور وتركيبتها وأهميتها، وعن فشل الإدارة الاقتصادية للأزمة. وتساءل الأستاذ علي داؤود عن ما يعطى من أهمية لوزارة السياحة في هذه الظروف، ومشاريع جديدة يجب أن يستثمر في اتجاهات أخرى.

وأخيراً ختم د.سنان بأن تباشير انقشاع الضباب بدأت تلوح، وبعض الرسائل الايجابية كمؤتمر الاستثمار وطرح ورقة الألفين ومعرض دمشق وعودة الألفة والمحبة والانتصارات العسكرية كلها تجعل مهامنا القادمة أصعب، ولا يمكن الانطلاق بها من دون تحصين الداخل وسط محاسبات ومكافآت، ووسط مصالحات تعيد اللحمة.

إن ما يروج عبر أدوات استعمارية لإعادة الإعمار كاذب، وسيكون بوقت أقصر وبأموال وأدوات سورية، بفرض قوانين تُرجع الأموال وتحميها وتوسع دائرة المشاركة.

إن الاستمرار بعدم الاكتراث لمعاناة الشعب يضع الحكومة أمام تساؤلات بحاجة إلى أجوبة سريعة حقيقية لا تكرار الهروب السابق.

العدد 1136 - 18/12/2024