هـل يمـكن لآليات السوق والتجارة الحرة أن تحل مشكلة الفقر ومسألة التنمية؟

 لقد أصبح الفقر مواكباً للحياة وجزءاً من كينونتها في ظل الأنظمة الطبقية على مدى التاريخ، وفي ظروفنا الحالية تعمقت مشكلة الفقر عالمياً وزادت، وأصبحت مسافته آخذة في الاتساع لا في النقصان. مما جعل حلها في مقدمة الأولويات في بقاع كثيرة من العالم، وعلى نطاق مؤسسات الأمم المتحدة.

إن شعار محاربة الفقر الذي رفعته تلك المؤسسات في الظرف الراهن، هو في حقيقته تراجع عن شعارات قديمة كانت المنظمة قد رفعتها في ظروف دولية تختلف عما يعيشه العالم الآن في الربع الأول من القرن الحادي والعشرين.

إن السنوات الماضية شهدت نشأة جيل كامل من المتخصصين في الاقتصاد والاجتماع على مفاهيم مثل التنمية الشاملة، وتحقيق المتطلبات الأساسية للناس، والاستثمار البشري، وتوزيع عائد التنمية على فئات المجتمع بالقسط إلى آخره، ولكن ما إن سادت مفاهيم أخرى مثل الخصخصة وآليات السوق وتحجيم دور الدولة في شؤون الاقتصاد، حتى ارتفعت معها شعارات جديدة أهمها (محاربة الفقر)، وكأنها ظاهرة منفصلة ليس لها علاقة بالظواهر الاجتماعية والاقتصادية الأخرى، ولكن المشكلة تفاقمت وأصبحت أكثرة حدة خاصة بالنسبة للقطاعات الأكثر حاجة والأقل قدرة في المجتمع على الدفاع عن نفسها أمام المتغيرات الاقتصادية الهائلة التي تضرب العالم، والتي قد تدل على أن العالم يدخل عصراً جديداً مليئاً بشراسة المنافسة ولا مكان فيه للفقراء.

إن عالمنا اليوم متحرك وحافل بالتغيرات الكبرى، أردنا ذلك أم لم نرد، سواء على مستوى الواقع المعيشي للأفراد أو العلاقة بين الدول المختلفة. لقد ظلت البشرية ردحاً من الزمن تتغذى وتعيش على بعض المقولات التقليدية، وتعتمد عليها في تسيير السياسة والاقتصاد وشؤون المجتمع، ولكن هذه المقولات تكاد تنقلب على أعقابها إلى النقيض تماماً، فما إن تسعد البشرية لفكرة وتطمئن إلى موقف حتى يأتي الزمن بفكرة مغايرة، وقد كانت الأفكار الجديدة في الماضي تأتي متدرجة، وعلى استحياء، وعلى فترة زمنية طويلة تقاومها الأكثرية وتقبلها الأقلية، أما الجديد اليوم فيأتي سريعاً ومؤكداً إلى حد الوقاحة وضاغطاً بل ومقبولاً من الأكثرية في وجه مقاومة ضعيفة من الأقلية.

وعلى سبيل المثال فإن تفكك الاتحاد السوفييتي أثيرت حوله عشرات الكتابات والتفسيرات، انصبت في معظمها على أن ما حدث هو انتصار تاريخي لآليات السوق وحرية تبادل السلع والخدمات، وأن هذه الآلية الجديدة أو المعبود الجديد (آلية السوق) سوف تضبط في نهاية الأمر العلاقات بين الأفراد والجماعات المتصارعة في المجتمع الواحد، وكذلك بين الدول، ووصل الحماس بالبعض إلى وصف ذلك بأنه نهاية تاريخ قديم وبداية تاريخ جديد، كما أكد فوكوياما والذين اتبعوا أفكاره.

هذه الفرحة بآليات السوق ما لبثت أن تبددت وأصبحت اليوم- على الأقل- محلاً للتساؤلات العميقة. لقد أخذ في الاتضاح يوماً بعد يوم أن الفكرة الزاعمة بأن اقتصاد السوق سيصل بكل المجتمعات إلى مستوى الرفاهية المادية، التي تتمتع بها شعوب ودول أوربا الغربية وأمريكا الشمالية، وأن الليبرالية الجديدة سوف تنتشر بين الدول التي تعاني التخلف انتشار النار في الهشيم لم تعد تجذب الكثير. واتضح أن هذه الفكرة البراقة لا تتفق مع الواقع، فالاستقطاب الحاد بين الأمم وكذلك بين الجماعات العرقية والمصلحية في الدولة الواحدة يشكل تهديداً متزايداً للاقتصاد الحر، فكلما دخلنا في إطار (العولمة) والنمط الاقتصادي العالمي، نمت وتجددت واتسعت أفكار الانعزالية ورفض الآخرين الذين يخالفونهم في الفكر أو العقيدة، أو يختلفون عنهم في اللون أو العرق. وظهرت هذه الأفكار حتى في مجتمعات الدول الرأسمالية المتقدمة. وهكذا يصبح الأمن بالمعنى الشخصي والجمعي معرضاً للتهديد أكثر مما كان في السابق، وظاهرة الاغتيال الجماعي والإرهاب ظاهرة متوقعة في هذه الدول الغنية، وهناك أمثلة كثيرة على ذلك. إنها تعبر عن التمزق الذي فرضته آليات السوق، وبشكل أوسع فإن أزمة سياسية عميقة تصيب المؤسسات التي ظلت التنمية العالمية تعتمد عليها حتى وقت قريب وهي الدولة وآليات السوق.

إن الدخول المتسرع في قوالب العولمة، واتفاقات التجارة الحرة، وسرعة انتقال الاستثمارات، والعبور الدولي للأموال، ورغبة الشركات الملحة في خفض التكاليف، قد ولدت ثلاث مشكلات رئيسية هي: عدم التساوي في المداخيل إلى حد مأسوي بين الشمال والجنوب، وتقلص فرص العمل بفعل التقدم التكنولوجي، والخراب المتسارع للبيئة التي نعيش فيها.

لقد ظلت الدولة زمناً طويلاً وفق منظور كينزي (نسبة إلى العالم الاقتصادي جون كينز) هي العامل الرئيسي في قيادة التنمية وتوجيهها والسيطرة عليها، ثم صار متوقعاً منها أن تقدم للجمهور مستوى من الرفاهية بدرجات عالية، وأن توفق بين المصالح المتضاربة والمتناقضة لمجموعتها السكانية، وقد ارتفعت التوقعات المجتمعية إلى درجة أن الدولة أصبحت عاجزة عن تحقيقها، وهكذا نما الانتقاد الواسع الذي يركز على فشل الدولة وضرورة تقليص دورها والاعتماد على آليات السوق، وقد تحقق ذلك في قطاعات عديدة عن طريق الخصخصة، والانفتاح الحر، وإزالة اللوائح التي كانت تنظم المعاملات الاقتصادية والتي اعتبرت الآن معرقلة للانطلاق الخالي من القيود في مجال الاقتصاد والأعمال. وقد سارعت كثير من الحكومات التي اعترفت بعجزها عن الوفاء باحتياجات شعوبها إلى تبني (إصلاحات السوق) بعد أن أطلقت عليها العديد من الأسماء الرنانة. بل إن البعض قد رأى أن الدولة المركزية بطبيعتها معادية لاحتياجات السوق، بل وللمؤسسات المدنية والديمقراطية، ومن هنا ظهرت أيضاً فكرة الدعوة للمنظمات غير الحكومية والداعية إلى اللامركزية والتقليل من قدرة الدولة على التأثير في مسار الأحداث. إن تبني هذه السياسة الاقتصادية من قبل تلك الدول قد كان له آثار سلبية وضارة عليها. لقد شهدت بعض البلدان الاشتراكية السابقة بروز عصابات المافيا والبغاء وتهريب المخدرات، وارتفعت نزعة الاتجاه نحو الإجرام وانزلقت بلدان أخرى إلى فترات صعبة من التمزق الاقتصادي، وشهدت بلدان عديدة صراعات عرقية أدت في كثير من الحالات إلى حروب أهلية. وقد كان من الممكن أن تؤدي أزمة الدولة إلى نتائج أقل خطورة لو لم تتواكب مع فكرة السوق غير المقيد، الذي قلل من الرقابة والحماية والمنافسة. ففي غياب القدر اللازم من الرقابة والحماية عجلت قوى السوق بتحويل الموارد الطبيعية إلى رأسمال مادي، وبذلك زادت من تفاقم استهلاك الموارد، كما أنها أخضعت أنظمة الحكم لمصالحها الشخصية وليس مصلحة المجتمع ككل.

إن عولمة قوى السوق أدت وتؤدي إلى خلق مغامرين تجاريين ومضاربين، لذلك فإن الناس العاديين لا تنمو لديهم الثقة في السوق، لأن مخالفة القوانين والقواعد لا تلقى العقاب، بل التشجيع، كما أن (تعويم الأسعار) يتبعه ارتفاع حاد في تكاليف المعيشة مفاجئ ومكلف لطبقات واسعة من الناس.

إن ازدياد انعدام التكافؤ الكبير في الدخل بسبب عولمة الاقتصاد قد أصاب الأفراد وأصاب هيكل الدولة نفسها بالعطب، ويبدو الأمر واضحاً في تزايد اتساع الهوة بين الدول الغنية والدول الفقيرة، فقبل ثلاثين عاماً كانت الدول الخمس الأكثر غنى من سكان العالم تملك أكثر من أربعين ضعفاً مما تملكه الدول الخمس الأكثر فقراً، أما اليوم فقد ارتفع الفارق بينهما إلى أكثر من سبعين ضعفاً، وأصبح 20% من مجموع الدول في العالم تملك 85% من إجمالي الدخل العالمي، بينما تقلصت حصة الدول الفقيرة فقط إلى 15% من بقية الدخل، وقد انخفض دخل العشرين دولة الأكثر فقراً في العالم من 2,3% إلى 1,4% فقط.

أي أن الدول الفقيرة زادت فقراً على فقر، وقد ارتفع أصحاب الملايين بحيث أصبحت ثروة نحو 5400 مليونيراً تساوي مجموع دخل نحو 2,5 مليار فرد من سكان العالم الأكثر فقراً.

أخيراً إن تحقيق التنمية الشاملة بالنسبة لشعوب العالم النامي، ومحاربة الفقر، ورفع مستوى المعيشة، لا يمكن أن تنجح، إذا لم تعالج جذور المشكلة، والتفكير ببرامج جديدة ومبتكرة لا تتهرب من ملامسة الأسباب العميقة التي أدت إلى هذه النتائج السلبية على مصائر الأكثرية الساحقة من سكان كوكبنا.

العدد 1140 - 22/01/2025