حين يتجاوز التزييف كل الحدود

في كلمته وهو يؤبّن شمعون بيرس، قارن الرئيس الأميركي أوباما، المتوفي بنلسون منديلا! إن هذه المقارنة الاستفزازية الصارخة في زيفها، تستدعي إلى الأذهان، ما قاله أمير الشعراء أحمد شوقي، في هذا الصدد:

أما ترى أن السيف ينقص قدره

 إذا قيل إن السيف خير من العصا؟!

أليس مجرد جمع اسم عملاق التضحية والفداء في سبيل الحرية، نيلسون مانديلا، بإسم قزم قاتل مثل شمعون بيرس، إهانة مدوية لكل القيم الإنسانية ؟ منديلا، الذي أمضى في سجون نظام الفصل العنصري الوحشي، قرابة ثلاثة عقود، قدّمها بقناعة، من عمره، قرباناً على مذبح حرية شعبه، للخلاص من ذلك النظام الهمجي، الذي بقي حتى لحظاته الأخيرة يحظى بدعم الولايات المتحدة وعطفها، والعلاقات المتميزة مع إسرائيل، في مختلف المجالات الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وبضمن ذلك في المجال النووي..

أما بيرس، فهو الذي أدخل السلاح النووي إلى الشرق الأوسط، وهو مهندس العدوان الثلاثي على مصر عبد الناصر عام 1956، مع معلمه بن غوريون، وهو المبادر للاستيطان الكولونيالي في الأراضي الفلسطينية التي احتلت في حزيران 1967، وهو جزّار مذبحة قانا عام 1996، وهو باختصار ذلك (الدساس الذي لا يكلّ) كما وصفه زميله إسحق رابين (وأتى عليها الصحفي الإسرائيلي أوري أفنيري في مقال له عن بيرس، عقب إصابته بالجلطة الدماغية التي أدت إلى وفاته)، فهل تستقيم المقارنة بين الرجلين يا أوباما؟!.

ولم يكتف أوباما بهذا الرياء المندلق في وصف شمعون بيرس، بل راح يتغزّل بـ(أمجاد) الحركة الصهيونية، مقدّراً لبيرس تعريفه بها، حيث تقع قيم (العدل والأمل) في مركز القلب منها- على حدّ زعمه. لكن أوباما في هذا التزييف الصارخ للحقيقة والتاريخ يواصل مسيرة كل من سبقه من الرؤساء الأمريكيين، منذ قيام دولة إسرائيل، بتأكيد القيم المشتركة الأمريكية – الإسرائيلية. فوفقاً لهذه القيم المشتركة فإن غزو أفغانستان والعراق وليبيا، وشنّ الحروب بالوكالة على سورية واليمن وغيرهما.

ومن الجانب الآخر، احتلال إسرائيل لبقية الأرض الفلسطينية ومصادرة المزيد منها، لإقامة المزيد من المستوطنات الكولونيالية الصهيونية فوقها، وفرض نظام الأربارتهاياد المشين على الشعب الفلسطيني الواقع تحت الاحتلال الإسرائيلي.. هذه كلها تقع في إطار (الدفاع) عن الحرية ونشر الديموقراطية! لكن حجر الأساس في هذه القيم المشتركة هو ممارسة التطهير العرقي بأبشع أشكاله الدموية، هذا التطهير العرقي الذي يمثل العلامة الفارقة، في التاريخين الأمريكي والإسرائيلي. وبالاستناد إلى هذا التطابق في القيم الإسرائيلية – الأمريكية فإن نتنياهو، الذي يقف فوق أرض جرت فوقها عملية تطهير عرقي ضد شعب بأسره يعتبر، اليوم، المطالبة بتصفية الاستيطان الإسرائيلي في الأراضي التي احتلت عام 1967، والمدان من المجتمع الدولية كله، يعتبر هذه المطالبة تطهيراً عرقياً ضد اليهود!

هذه نماذج من القيم المشتركة الأمريكية – الإسرائيلية، التي ألهمت أوباما بمقارنة بيرس بمنديلا، وانطلاقاً أيضاً من تطابق فهم الطرفين لمفهوم الديموقراطية والحرية. دعي الكاتب الإيرلندي الساخر، برنارد شو، عقب الحرب العالمية الثانية، لزيارة الولايات المتحدة، فعقب في رفضه لهذه الدعوة بما يلي: (يقولون إنني كاتب ساخر، لكن لم تبلغ بي السخرية حداً أن أذهب إلى أمريكا وأشاهد تمثال الحرية على بابها)!. (وهذا التمثال، القائم في مدخل نيويورك، هو هدية الثورة الفرنسية الكبرى1789، إلى الشعب الأمريكي الذي ثار على الحكم البريطاني).

على صعيد آخر، يبدو أن عدوى الخلط بين البطل والقاتل، وبين القزم والعملاق، وبين المحتل وضحيته، لم ننجُ منها، نحن الفلسطينيين بكل أسف، فالرئيس عباس تحدى إرادة شعبه وقواه الوطنية وشارك، وحتى دون دعوة من الطرف الإسرائيلي، لا من لجنة التأبين الرسمية ولا من أية جهة رسمية إسرائيلية أخرى، في جنازة بيرس، متجاهلاً السجل الأسود والحافل لبيرس ضد الشعب الفلسطيني، لكنه لم يتلقَّ على هذا الحضور إلا التجاهل التام ، من جميع المسؤولين الإسرائيليين الذين تعاقبوا على منصة الخطابة، وفي مقدمتهم نتنياهو، والذين حرصوا على ذكر كل من شارك في حفل التأبين، حتى دولة لوكسمبرغ، التي قد لا تظهر على الخارطة، عداه. أما اللقاء العرضي بينه وبين نتنياهو، فقد دام خمسين ثانية، أي أقل من دقيقة واحدة، كما جاء في صحيفة هآرتس الإسرائيلية.

 واستطرادا لهذا النهج في الخروج على إرادة شعبه، بل وتحدّيه له ، حرص الرئيس عباس، في خطابه أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة، أن يؤكد من جديد، ودون أي مبرر أو سبب، استمرار وقوفه إلى جانب السعودية، في حربها العدوانية الظالمة على الشعب اليمني الشقيق، وما ترتكبه من جرائم مروّعة ضد السكان الأبرياء بما في ذلك الأطفال، بخاصة عبر الغارات الجوية، على الرغم من أن السعودية هي المحرّك الأساسي وراء الإنذار الذي وجهته الرباعية العربية مؤخراً للرئيس عباس، والذي يحوي في طياته إنذاراً له بالتغيير والاستبدال.

والسؤال الذي يُطرَح في هذا الصدد: إلى متى هذا التصعيد في تحدي الرئيس عباس لإرادة شعبه.. إلى متى؟!

العدد 1140 - 22/01/2025