صندوق النقد الدولي
قبل رفع الحلفاء بيارق النصر في الحرب العالمية الثانية، وعلى أنقاض المدن المدمرة، والمصانع المحترقة، والقبور الجماعية لعشرات الملايين من ضحايا هذه الحرب، بدأ هؤلاء التخطيط لوضع أسس نظام دولي جديد يتفق مع تصوراتهم للعالم بعد الحرب الكونية الثانية على الصعيدين السياسي والاقتصادي، وقد تبلور الجانب السياسي وقضايا السلم والأمن العالميين من تلك التصورات في إنشاء منظمة الأمم المتحدة لتحل محل عصبة الأمم، أما الجانب الاقتصادي فقد وضعت أسسه في مؤتمر ( بريتون وودز ) المنعقد في عام 1944 في الولايات المتحدة، وانتهى إلى إنشاء مؤسستين هما البنك الدولي للإنشاء والتعمير، وصندوق النقد الدولي، وفي حين انضمت جميع الدول المستقلة إلى النظام السياسي الدولي الممثل بالأمم المتحدة على قدم المساواة، فإن النظام الاقتصادي تأثر بانقسام العالم بعد الحرب إلى كتلتين متحاربتين – على البارد – فلم تنضم دول الكتلة الاشتراكية إلى أي من المؤسستين الاقتصاديتين حتى انتهاء الحرب الباردة بانهيار الاتحاد السوفييتي، فانضمت هذه الدول إلى عضوية هاتين المؤسستين، وخلافاً للأمم المتحدة فالدول المشاركة في النظام الاقتصادي لا تتمتع بالمساواة، فأصوات الدول تتحدد هنا على أساس مساهمتها، لذلك تتمتع الولايات المتحدة وأوربا الغربية بسيطرة مطلقة على البنك الدولي، وصندوق النقد الدولي، وتم الاتفاق بينهما على تعيين رئيس المؤسسة الأولى من قبل الولايات المتحدة، والثانية من قبل الدول الأوربية(1).
لقد كُلف صندوق النقد الدولي بمهمة بالغة الأهمية في الفترة التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وهي العمل على استقرار سعر الصرف وحرية تحويل الأموال، لذلك انهمك الصندوق بأمور الدول الصناعية المتقدمة في أوربا، لكنه استُدرِج بعد ذلك كالبنك الدولي إلى مسائل الإصلاح الاقتصادي في الدول النامية في الثمانينيات، وأصبحا المشرفين الرئيسيين على تحول اقتصادات الدول الاشتراكية السابقة إلى اقتصاد السوق في التسعينيات من القرن المنصرم، وقد تنازع الفكر البريطاني وممثله (كينز) والفكر الأمريكي وممثله (هاري وايت) على فرض فلسفتهما الاقتصادية على طريقة عمل صندوق النقد الدولي قبل إنشائه، فقد رأى (كينز) أن يكون الصندوق بمثابة اتحاد دولي للمقاصة يدير النقود الدولية بحجم يتفق مع احتياجات الاقتصاد العالمي، وتتكون النقود الدولية من وحدات أطلق عليها (كينز) اسم (بنكور) وحدد قيمتها بكمية معينة من الذهب، وتقبل الدول الأعضاء هذا (البنكور) في تسوية معاملاتها الدولية، ورأى (كينز) أن المعاملات الدولية تفترض وجود بعض الدول التي تقع في حالة عجز في ميزان مدفوعاتها، وأخرى في حالة فائض، ووضع بعض القيود على سحب الدول الفائضة لحقوقها في محاولة لإرغامها على المساهمة في علاج العجز في الدول الأخرى، أما (وايت) فقد اقترح أن يقوم الدول الأعضاء في الصندوق بإيداع حصص تتكون من الذهب وأذونات الخزينة والعملات الوطنية الخاصة بها، وتستطيع الدول التي تعاني العجز أن تسحب من الصندوق لمواجهته على أن تلبي بعض الإجراءات التي يفرضها، وعلى عكس (كينز) فإن (وايت) لم يفرض أي عقوبات على الدول التي يستمر ميزانها فائضاً، فقد اعتبر أن الاختلال في موازين المدفوعات مسؤولية الدول التي تقع في العجز، ولا ضرورة لإرغام الدول الفائضة على مساعدتها، ولم تجد مقترحات (كينز) قبولاً من الأمريكيين، وأصبحت مقترحات (هاري وايت) هي الأساس في النظام الاقتصادي العالمي الجديد الذي تم الاتفاق عليه في بريتون وودز (2).
تقوم كل دولة بإيداع حصتها في الصندوق بنسبة تعادل 25% ذهباً والباقي بالعملة المحلية للدولة العضو، وتستطيع الدول شراء العملات الأخرى مقابل عملتها بكميات تعادل حصتها في الصندوق وفق شروط حددها، وتتلخص بتأكد الصندوق من أن العملات المطلوبة ستستخدم لتسوية مدفوعات متفقة مع نظام الصندوق، وألا تستخدم في العمليات الآجلة، وألا تلجأ الدول إلى تغيير سعر صرف عملتها دون إذن منه، وهكذا عكست سياسة الصندوق الأوضاع السائدة عند نهاية الحرب العالمية الثانية، لكن هذه السياسة طرأ عليها تغييرات كبيرة مع تبدل الأوضاع في منتصف سبعينيات القرن الماضي، إذ تم إلغاء اتفاقية (بريتون وودز) واتبع الصندوق سياسة سعر الصرف المتغير، وفي ثمانينيات القرن العشرين أطلقت المسز تاتشر، التلميذة الأشـهر لفريدريك فون هاييك فيلسوف الليبرالية الجديدة، وبمشاركة وتأييد من الرئيس ريغان، المبدأ الرئيسي لتوجههم الاقتصادي والقائم على شعار ( كل ما يُنتجه السوق صالح وكل ما يَنتج عن تدخل الدولة فهو طالح) (3).
فتغيرت تبعاً لذلك مهام صندوق النقد الدولي، إذ كُلف مع البنك الدولي ووزارة الخزانة الأمريكية بوضع خطة التكيف الهيكلي والتثبيت الاقتصـادي – نموذج الليبرالية الاقتصادية الجديدة – أو ما اصطلح على تسميته (توافق واشنطن)، مستغلين حاجة الدول النامية إلى المساعدات الدولية لتنمية مواردها وتطوير اقتصاداتها، وتعزيز اندماجها في الاقتصاد العالمي، فبدأ الصندوق بالتعاون مع البنك الدولي وصناديق الائتمان الأمريكية بحملات الإقراض للدول المذكورة وفق شروط توافق واشنطن، التي يأتي في مقدمتها التحول إلى اقتصاد السوق الحر، وتقليص الدعم الاجتماعي، والاكتفاء بالحكومات المصغرة ، وتحولت مهمة صندوق النقد الدولي من هيئة لتعزيز الاستقرار الاقتصادي في العالم إلى شرطي يراقب الدول النامية ودول أوربا الشرقية للتأكد من تقيدها بالنموذج الاقتصادي المقترح وذلك ضماناً للقروض الممنوحة .
لا يمكن تغيير السياسة التي ينتهجها الصندوق مادام أنصار الليبرالية الجديدة في الولايات المتحدة وأوربا مستمرين في مخططهم للسيطرة على الاقتصاد العالمي، وحسب اعتقادنا سيمر وقت طويل قبل اعتبار الصندوق شريكاً فعلياً للدول النامية في سعيها لتحقيق تنمية اقتصادية واجتماعية مستقلة.
المراجع:
1- ميشيل هوغان – خطة مارشال – كامبريدج 1987.
2- د . حازم الببلاوي – النظام الاقتصادي الدولي المعاصر.
3- طوني غيدينز – مستقبل السياسات الراديكالية.