!اسرقوا قليلاً… نرجوكم
اثنان يفرغانك من كل كلمة ومن كل حضور: العدم، والسرقة حتى الامتلاء. فهل لم يبق للسوري في هذه الأيام لا كلمة ولا حضور، بعد أن تفرّد مَن تفرد بالعدم، واستأثر من استأثر بالسرقة حد الامتلاء؟؟.
يحبس السوري أنفاسه خوفاً وهمّاً عند كل تغيير أو تعديل يفضي إلى وجوه جديدة في المناصب الحكومية، لأنه يعلم أن منصباً كهذا سيزيد من بؤسه، وأن صاحب المنصب سيكمل ما بدأه من كان قبله في التمتع بالمميزات والصلاحيات المقدمة له، فيستغلها لتحقيق رؤاه المستقبلية في أن يملأ ما يمكن ملؤه من الثروات والأموال وتحقيق الرفاهية له ولعائلته وأقاربه وأذرعه ولأحفاد أحفاده من بعده.
وكل هذا لابد من أن يزيد من بؤس المواطن السوري، فكلما تغير وجه جديد اكفهرت وجوه كثيرة، وكلما تقلصت الثروات بيد الأقلية وتحكموا بها، ازدادت مظاهر البؤس والفقر والحرمان لدى الأغلبية من الشعب.
لقد أضحى الفساد جزءاً من حياة المواطن وسلوكه يراه أينما حل وأينما توجه.. يراه عند صغار الفاسدين في الدوائر الحكومية مَن يلمحون إلى تقاضي رشوة لقاء إنهاء المعاملة.. يلحظه أيضاً في تغير أحوال قريبه أو جاره الذي استلم منصباً في الدولة ولم يمض عليه الا القليل لتتغير أحواله، فيستبدل ببيته بيتاً أحسن وأفخم ويشتري سيارة ويذهب أولاده الى المدارس الخاصة غالية الأقساط، وتتغير رائحته فتفوح منه رائحة المال واللحم.
يلحظه أيضاً لدى التاجر الصغير الذي احتكر بضاعته عند سماعه لتذبذب دولاري في السوق، ولدى التاجر الكبير ذي الصلاحية المطلقة الذي قرر مثلاً أن يهرّب البندورة إلى الدول المجاورة فأضحى سعرها يلامس 600 ليرة سورية في ظاهرة غير موصوفة لم يشهدها المواطن الذي تشكل هذه المادة أهم مستلزمات طبخته، هو نفسه التاجر الكبير الذي يرشو هنا وهنا كي يحرم المواطن من الكهرباء فيضطر الى شراء معدات الإضاءة من لدّات وبطاريات مخزنة في مستودعاته. أما عن الصفقات الكبرى التي يدفع لها كي تمر، فتصل إلى المواطن بأسعار باهظة، فحدّث هنا ولا حرج.
فساد في كل مكان، فساد في الشوارع الممتلئة بالحفر والمطبات لأن متعهد المشروع أراد أن يحقق نسبة له فخفف من مواد تزفيت الطرقات وكأن المال مال أبيه. فساد في البلديات لأن كل رخصة بناء يجب أن يعمّ (خيرها) على رئيس البلدية وأعوانه. وإن كان هنالك مخالفة فلا يهم.. (ادفع) كي تغمض العيون عنك وخالف كيفما شئت.
فساد في الميناء وفي البواخر التي تقبع على أطراف الميناء المحملة بمواد غذائية لن تُفرَغ ما لم تعبّأ جيوب بعض المسؤولين هناك…
في التعليم، في أفضلية الدراسة خارجاً لأبناء المسؤولين، وفي الرشا التي يطلبها المحاضر كي ينجح الطالب الجامعي، أو الرشا التي يدفعها المحاضر نفسه لمن هو أكبر منه كي يستلم منصباً مهماً.
فساد في الصناعة، فإن أردت إنشاء مصنع فلابد لك من تراخيص، ولن ترخّص ما لم تدفع هنا وهناك، وإن قررت إحضار الماكينات الصناعية فهذا له سعر خاص أيضاً.. أما إن أردت العمل براحتك دونما إزعاج من جهات رقابية، فعندئذٍ عليك أن تدفع أيضاً كي تغني نفسك عن خلق ثغرات في عملك تختلقها لك تلك الجهات الرقابية نفسها.
أما إن كنت إنساناً بسيطاً وفقيراً وقررت أن تبيع شيئاً ما على بسطة في أحد الأسواق، فما عليك إلا أن تدفع لموظفي التموين كي لا يخالفوك ويصادروا لك بسطتك التي تطعم منها أولادك… أما عن فساد الموظفين في وزارة التجارة الداخلية وحماية المستهلك فلهم وحدهم الحصة الأكبر التي تُملأ من قصصهم ورشاهم الجرائد والكتب..
ولكن ما فائدة أن يلقى القبض على وزير سابق بعد إزاحته وتعيين وزير جديد؟ هل سيعيد الأموال التي تقاضاها لقاء تمريره مئات القضايا بطرق غير مشروعة وتسببه في الفساد القضائي الذي لم يسبق له مثيل في تاريخ سورية مثلما شهدناه هذه الفترة؟
هل سيحاسَب؟ ولماذا تُرك ليمارس كل تجاوزاته حتى كوّن ثروة تقدر بالملايين وأكثر؟ لماذا لم يحاسَب قبلاً وهو المشهور بتجاوزاته؟ هكذا يتساءل كل مواطن سوري. ويتساءل أيضاً في الوقت نفسه: لماذا لا تمارس هيئة الرقابة والتفتيش عملها وهي التي أنشئت لهذا السبب؟؟ لماذا هي غائبة عن المشهد الحكومي؟ والسؤال الأهم: أنها بحسب قانون إحداثها والذي ينص على مكافحة الفساد، لماذا لا تكافح الفساد بكل أشكاله مع أن لديها صلاحيات واسعة كي تعاقب حسب القانون من يثبت فساده في اختلاس أموال الدولة؟ لو كان السوط موجعاً لما شهدنا كل ذاك الفساد من حولنا. ولكن التساهل مع الفاسدين وغض النظر عنهم هو من أوصلنا إلى هذه الحالة.
يئس المواطن السوري من صراخه اللا مجدي كي يكبح جماح الفاسدين، ويقدر أن يعيش بكرامته ولكن دونما جدوى.. أما اليوم، فالمواطن وبعد أن ملّ من تكرار مطلبه الوحيد في مكافحة الفساد وسرقته للقمته وكرامته من قبل الفاسدين وعلناً ليل نهار، وبعد أن شاهد بأم العين كيف يسرح الفاسدون بلا حسيب أو رقيب أو حتى مساءلة، وكيف أصبح الفساد ثقافة يدرسها الفاسد الكبير لحاشيته وأولاده، وبعد أن خاب أمله في إيقافهم ومحاسبتهم، يطلب المواطن، بحزن وحسرة، أن اتركوا لنا شيئاً! اتركوا لأولادنا ما يسدّ رمقهم.. اسرقوا قليلاً نرجوكم….