تركيّا.. على حد الموس.. بين انقلاب فاشل وسيناريو متوقّع!
من أنطوان شاربنتي ـ فرنسا
في الخامس عشر من الشّهر الماضي ( تموز).. حبس العالم أنفاسه وهو يشاهد الانقلاب الذي كان يجري في تركيّا!! وتقاطر الجميع بين مصفّقٍ ومستنكرٍ له!! ولكن.. ما الذي حدث حقيقة في ذاك اليوم؟ وإلى أين هي ذاهبة تركيّا بعد هذا الانقلاب الفاشل؟ تكاثرت الأقاويل والشّائعات حول الموضوع.. فأصرّ البعض على أنّه محض تدخّلٍ أمريكي فيما ذهب البعض الآخر إلى أنه انقلاب حقيقي يعود بأسباب حدوثه إلى السياسة التي ينتهجها رئيس البلاد رجب طيّب أردوغان. فإذا تأكّد وجود سيناريو لأصابع أمريكية محتملة في هذا الانقلاب فهذا يعني أن الأمريكيين ضربوا (عصفورين بحجر واحد) من حيث نصبهم للفخاخ للجيش لدفعه إلى القيام بالانقلاب علماً أنهم كانوا سيتركونهم لمصيرهم في وسط الطريق، الأمر الذي فيما لو تأكد سيخلصهم من مخاطر ديكتاتورية عسكرية كانت متوقعة منذ فترة في تركيّا.
ومن جهة ثانية سيوهمون أردوغان بأنهم كانوا طوق النّجاة له مما سيبديه ضعيفاً وغير جدير بأن يكون حليفاً للناتو وخصوصاً في الملف السوري، علماً أنّ الصفقة بشأن سورية قد تمّت بين الروس والأمريكيين. على الأقل هناك أمر أكيد على ما يبدو وهو أنّ حدوث أمرٍ كهذا (الانقلاب) لا بدّ للروس وللأمريكيين أن يكونا على اطلاع أوّلي به على الأقل.. هل تعاون العدوّان الحليفان في اللعب بما يخص الحدث الكبير في تركيّا؟
يجدر بنا التّساؤل جديّاً عن مدى الامتيازات والصفقات التي قدّمها أردوغان للطرفين لكي يبقى في سدة الحكم. ولا يغرّنّنا عبارات الوعيد التي أطلقها الرئيس التركي على الولايات المتّحدة. إذ ليست سوى زوبعة في فنجان أراد منها أردوغان توجيه رسائله إلى محازبيه وإلى المحافظين. وهنا يجب أن لا ننسى أن تركّيا هي عضوٌ في حلف شمال الأطلسي ( الناتو). أما بالنسبة للنظرية التي تقول بأن الرئيس أردوغان هو من أوصى بالقيام بالانقلاب فمن الممكن تقبّلها فيما لو أن الرئيس التركي يجد صعوبة في إدارة الدولة على الساحتين الداخلية والخارجية.
ليتنا نصدّق (الواشنطن وست)… لقد كتبت مقالاً في 7 نيسان 2016 أشارت فيه إلى أنّ أردوغان يحضّر لانقلاب بغية تقوية موقعه وإبعاد مناوئيه. لقد تمّ إبلاغ أردوغان بما حدث عن طريق رجال الأمن لديه غير أنه لم يكن بإمكانه إلا ترك الانقلاب يمر مسارعاً في الوقت نفسه إلى استغلاله لمصلحته.. وهنا يدلي أستاذ التاريخ واللغة التركية في الجامعة اللبنانية الدكتور محمد نور الدين بدلوه، فيقول بأن الانقلاب تمّ استعجاله لأنه في اليوم التالي أي صبيحة 16 تموز سارعت جميع قوى المخابرات السرية التركية والقائد العام للجيش وكذلك السلطات القضائية بتوقيف وإدانة كل المتورطين لاحقاً بالانقلاب.
من هنا يمكننا تفهم سبب قيام هؤلاء وعلى عكس العادة في الانقلابات التي تحدث في العالم بأسره بتوقيف قائد الجيش وقائد الشرطة ولم يقوموا بتوقيف السلطات السياسية المدنية.. من المحتمل أن الانقلابيين كانوا يأملون من توقيفات مرؤوسيهم بأن يقوموا لاحقاً بالانضمام إليهم.. إلا أن رفضهم بدا سبباً من عدة أسباب برّرت فشل الانقلاب في 15 تموز.. وتبعاً لهذا التّصور لم يعد للانقلابيين من خيار سوى المضي قدماً في مسارهم آملين انضمام حلفاء لهم في مدن أخرى غير أنقرة واسطنبول.. وعلينا أن نؤكد أن هذا الانقلاب الفاشل سيسمح لأردوغان بإبعاد مناوئيه وتقوية قاعدته الشعبية واستغلال المناسبة ليستمر بمحاولته بناء نظام رئاسي مطلق الصلاحيات ولمدى الحياة بعد أن يتم تعديل الدستور التركي.
إلّا أنّه يُخشى من جنون العظمة لدى أردوغان من أن يسبب له العزلة بسبب إسلاميته الأصولية المطلقة، وكذلك بسبب سياسته القمعية. وبالتأكيد فإنّ الغرب اليوم يغمض عينه عمّا يحدث في تركيا إلا أننا نعتقد بأنّه لن يبقى طويلاً على هذه الحال.. إذ سرعان ما ستتعالى الأصوات في الداخل والخارج، الأمر الذي سيسارع بدفع الرئيس التركي إلى ترك مقاليد الحكم وخروجه من السلطة.. وبما أنّ الخطر ليس فقط بسبب سياسة التطهير التي يمارسها أردوغان ضد خصومه وضد نظام المعارضة الحالية.. بل لأنّه يصعب تحديد ماهية طيف المعارضة لأردوغان إذ لا تزال غامضة ومشوّشة..
إن استمرار أردوغان على رأس السلطة بعد محاولة الانقلاب الفاشلة لها انعكاسات سلبية منها: تقوية الفكر والممارسات الإسلامية الأصولية في بلدٍ تصل فيه نسبة من يدعم فروع القاعدة كـ(داعش) و(النصرة) العاملة في سورية الجارة تصل إلى نحو 10%.. وبهذه الحالة ستكون السلطة بيد الإسلاميين على حساب مؤسسات الدولة كالجيش والقضاء.. وكذلك ستكون السلطة لهم على حساب العلمانيين الأمر الذي سوف يؤدّي إلى مزيدٍ من التّشظّي في المجتمع التركي وإلى نزاعات داخلية خطيرة تحصد بعدها تركيا صورة مشوّهة في عيون العالم أجمع.. إلّا أنّه يكفي أن نقوم بجردة حساب لمقاليد الحكم في الشرق الأوسط التي تولى السلطة فيها الإسلاميون، وخصوصاً بعد الربيع العربي، لكي نتمكّن من توقّع ما سيحدث في تركيا فيما لو تولى الإسلاميون زمام السلطة!!
لقد صرّح أردوغان علناً برغبته في تنظيف الجيش من العناصر المشبوهة، وهذا يعني استمراره في عمليات التطهير في قلب مؤسسات الجيش.. الأمر الذي سيؤدي به إلى الضّعف ( للجيش)!! وأولى بدايات هذا الضّعف (من في حكم المستقيلين لضباط الاستخبارات التركية وكذلك المستشارين العسكريين في حلب.. أما ما يخصّ المؤسسة القضائيّة فإنه يُخشى من أن يؤدي تطهيرها إلى ظهور قضاء يعود بولائه لطائفة بعينها.. السّاحة تتّسع لقضاءٍ ميليشيوي وأصولي!! وقد رأينا دلالات على ذلك ليلة الانقلاب نفسها، فقد ظهر أفرادٌ يعتدون بالضّرب على جنود أتراك وحتى أنهم قاموا بفصل رأس أحدهم دون وازعٍ من ضمير.. في كل الأحوال سوف تكون النّتائج كارثية على تركيا التي بدأت لتوّها طريق القهقرى.. إلا أن الوضع الحالي يمكن له أن يخدم أردوغان في تحويل الأنظار عن المحافظين الإسلاميين ( أول مناصريه بما يخص مصالحته مع إسرائيل).
أخيراً.. إذا كان أردوغان يطالب برأس معلمه من المحافظين الإسلاميين السيّد غولين فهذا قد يعود لرغبته في التّفرد بالسلطة دون منافس من الإسلاميين المتشددين.. إن أردوغان القابع على أبواب أوربا يقوم اليوم بإنشاء ديكتاتورية إسلامية من المحافظين المتشددين.. هذا الأمر لن يزعج الديمقراطيين الغربيين ما دام أردوغان لا يزال تحت السقف بالسماح بعقوبة الإعدام.. إنّ الغرب الديموقراطي لا ينتبه لما يحدث في تركيا ولكنه يحرص منذ خمس سنوات على إظهار بشار الأسد رئيس الدولة السورية العربي والعلماني والذي كان يسير بسورية إلى التحديث على أنّه (ديكتاتور)!! هو الذي لم يتجرأ أبداً على القيام بما يقوم به أردوغان اليوم في تركيا وفي هذه الأثناء بالذات.. لقد كانت هناك أخطاء في إدارة الأزمة في سورية كما قد يحصل في كل دول العالم وهي تعيش ظروف حرب بالغة الصّعوبة..
لم يتوانَ الغربيون في الاستفادة من الظروف البالغة القسوة التي تعيشها سورية في ظل حربها الضروس التي تظهر الرئيس الأسد على أنه ديكتاتور يقمع ويقتل شعبه.. ولكنهم بالمقابل وفي حالة أردوغان الذي يطهًر بلده: أوقف لغاية اليوم خمسة عشر ألف شخص، يضع الغرب يده على عينيه متظاهراً بعدم الرؤية.. يا للسخرية! الغرب لا يرى رغبة أردوغان التّوسعية وحلمه العثماني في حين أنه يركّز على تمدد إيران الذي حتى اللحظة لم تبدِ أيّة رغبة في إنشاء إمبراطورية لها.. والغرب حين يرفع الصوت عالياً في وجه أردوغان فيما لو طبّق عقوبة الإعدام فذلك فقط لأنه لن يتمكّن لاحقاً من تعليل ارتباطه بمثل هذا النظام بناءً على معتقداته العامة..
أخيراً فإن القادة الغربيين ولأنانيتهم يتمنون وفي قرارة أنفسهم لو يطبّق أردوغان عقوبة الإعدام كي تتمّ لهم الحجة في المجاهرة برفضهم العلني انضمام تركيا إلى الاتحاد الأوربي.. لذلك نعتقد أن أردوغان لن يسير في هذا القانون إلا إذا أصيب بلوثة في عقله، علماً أنّ هذا الأمر ليس بوارد ما تحتاجه تركيا اليوم. وهنا يجب أن نسأل: من هم هؤلاء الأتراك الذين نزلوا إلى الشوارع للدفاع عن الديمقراطية.. ؟ وكيف بالإمكان وصفهم؟.. إذا أردنا تصديق الصحفي التركي (بشار كيمو يفون) فهو يقول عنهم بأنهم إسلاميون ونشطاء اليمين المتطرف..
هل هذان الطّيفان يمكن لهما أن يمثّلا غالبية الشعب التركي؟ ثم ألا يعني قيام أحزاب باعتبارها ممثّلة رسمية لغالبية الشعب التركي بأن يتم بذلك أخذ هذا الشعب رهينة وهو محروم من تمثيل كل أطيافه؟ وتبعاً لما تتناقله بعض الإشاعات فإن لوائح توقيف المعارضين كانت قد جهّزت قبل قيام الانقلاب، وإلا فكيف تُعلّل جدّياً التوقيفات الكثيفة صبيحة اليوم التالي للانقلاب الفاشل دون أي إجراء أي تحقيق من الجهات الرسمية للسلطة؟
هناك الآلاف والآف الموظفين الذين قدّموا استقالاتهم وينتمون إلى كل قطاعات الدولة ومن درجات السلّم الوظيفي كافة.. فإذا كانوا جميعاً متورطين حقيقة بالانقلاب لكان يجب على الانقلاب أن ينجح.. من هنا.. جاء أردوغان ببدعته في القضاء على خصومه وإخلاء السّاحة من معارضين حقيقيين له على المستوى الفكري والعملي.. الوضع الحالي في تركيا يشير إلى انحراف أردوغان عن سورية.. فهل كان الانقلاب الفاشل حلّاً لخروج يحفظ ماء وجه أردوغان بالاتفاق مع حلفائه الغربيين علماً أنّ حصته في سورية تأكّد ضياعها! أخيراً.. لقد تورّط أردوغان في طريق لا مخرج له بسبب انطوائه على ذاته سالكاً درباً من طرائق تفكير لا تلائم العصر.. فرغبة الرئيس التركي في العودة بتركيا إلى زمن السلطنة العثمانية لها العديد من المحاذير في عالم يضجّ بالتّطور والحداثة والعولمة، خاصة أنّ تركيا تعدّ من البلدان الشرق أوسطية الأكثر حداثة.. وكما يعبّر جيداً عن الحالة التركية.. يقول الصحفي والباحث والمفكّر اللبناني فيصل جلّول بأنه لن يسمح لتركيا ذات الوجهين الألماني والياباني بالعودة إلى بناء إمبراطوريتها.. من هنا فإنّ أردوغان لن يبقى طويلاً في السلطة.. وأخيراً.. فمن الصعوبة بمكان تحديد الطّرف الذي قام أولاً بالانقلاب: أهو أردوغان أم العسكر؟ هل هو الرئيس التركي بسياسته الإسلامية المطلقة أم العسكر الذين قاموا بردة فعلٍ على هذه السياسة وخاصة في ردّهم على أوامر أردوغان فيما يخصّ سورية؟