أضرحة السماء..عذابات الشباب السوري

 أين تذهب حرقة الروح إن هي فاضت بالأحزان؟ وأي طريق يسلكه الوجع عندما لا يلقى له على الأرض مستقراً؟ وبأي لغة تفك طلاسم الجوى إن ملئ القلب بالأرزاء والبلاء، وثقل اللسان بآيات الغفران والرحمة والنوى؟ لا بد من طريق تصله كل تلك العذابات.. فأبواب السماء مفتوحة، ولكن من ماتوا حملوا كل ذاك مع أرواحهم، فكان لهم في السماء أضرحة تخلد آلامهم، كما يخلد ضريح منسي لهم على الأرض أجسادهم التي مزقها الرصاص والجوع والقهر.

الشباب السوري، كما الجندي السوري، كما الطفل، كما المرأة السورية، كلهم ضحايا حرب غادرة مزقت بأهوالها سكينة أرواحهم، فدفعتهم إلى الهروب، حالهم كحال من يقع عليه البلاء فإما مقتول وإما ضائع بمستنقع الفقر والخوف والنزوح.

هاجر الكثير من الشباب السوري خارج وطنهم، ولعل أبرز سبب للهجرة هو نتيجة ظروف الحرب، فنسبة الشباب السوري بين المهاجرين تشكل 18%من الواصلين إلى السويد، و4% منهم يحملون شهادات عالية، و7% شهادات متوسطة، أي أن عدد حاملي الشهادات العليا تجاوزوا 800 شخص، وبحسبة بسيطة يكون الرابح الأكبر من هذه الهجرة هي الدولة المضيفة (السويد)، لأن تكلفة شاب يحمل شهادة عليا على الحكومة السويدية يتجاوز مليوناً ونصف المليون دولار منذ الولادة إلى تخرجه، بمعنى أن الحكومة السويدية استفادت بشكل مباشر من مليار و200 ألف دولار فقط من أصحاب الشهادات العليا، ليكونوا رافداً للعمل في الأسواق السويدية. وفي هذه الحالة خسرت سورية كل هذه الكفاءات الشابة التي أنفقت عليهم منذ تحصيلهم العلمي الأول حتى الجامعي ملايين الليرات، لتأخذهم دول ببساطة ودونما تكبد عناء تدريسهم والصرف عليهم، مستفيدة من أوضاع البلد حيث لم تعرف الحرب مستقراً لها بعد.

خسارة لا تقدّر ولا تقاس بميزان.. فالشباب هم دعامة الوطن الأساسية، ولأن الوطن بحاجة إلى شبابه، فقد تطوع الكثيرون للدفاع عنه، بينما قسم لا بأس به هاجر هرباً من الخدمة الإلزامية ومن الموت في المعارك الدائرة. وفي النهاية خسر البلد شبابه ما بين محارب وشهيد ومهاجر، خسارة كارثية ستكون في المستقبل نتيجة فقدان عنصر الشباب. من سيعيد الإعمار ان انتهت الحرب؟ ويعيد تشغيل المصانع والمعامل والعمل بها؟

لعب الغرب لعبته القذرة في إشعال الحرب وموت قسم كبير من الشباب السوري، وعلى الجانب الآخر حاول استقطاب الفئة المثقفة والمتعلمة من أصحاب الشهادات، وقدم لهم شتى الإغراءات لعدة أسباب، منها حرمان بلدانهم من خبراتهم وكفاءاتهم، مما يبقيها في حالة من التخلف والجهل، وكذلك الاستفادة من هذه الثروة التي قدمت لهم بالمجان. ومن هنا ندرك أن الرأسمال البشري هو أثمن رأسمال تمتلكه الدولة أو المجتمع، فمهما كان المال مهماً وأساسياً، يظلّ الانسان الذي يدير هذا المال أو الثروة المنتج للتكنولوجيا هو الأكثر أهمية. فأكبر تحدٍّ يواجه التربية عموما والوطن خصوصاً هو بناء الرأسمال البشري، أو ما يعرف بلغة أخرى بناء الإنسان.

إن جهداً بذلته الدولة السورية خلال عقد من الزمن تكلفت به جهداً وأموالاً طائلة كي تؤسس خزاناً بشرياً، وقوده العلم وأساسه الإنسان هو جهد مبارك، وأثمر خيرة الشخصيات والعقول العلمية، وكان الأجدى أن تبقى في هذا الوطن رغم محنته، وكان الأفضل لو لم تهاجر. وكنتيجة حتمية للهجرة نتيجة ظروف الحرب يتساءل أحد الأطباء ممن بقوا هنا رغم الظروف الصعبة: أليس الواجب أن يعود زملائي اليوم أو غداً، وخاصة بعد الانفراج الملموس في الواقع الأمني وتحسن الأحوال الإقليمية، مما انعكس إيجاباً على الواقع الداخلي للسوريين؟ أليس الأجدى تشجيع الدولة السورية لعودة أبنائها وخاصة الشباب، وتقديم كل التسهيلات لهم للرجوع إلى وطنهم وأخذ مكانهم الطبيعي فيه؟ ماذا بعد انتهاء الحرب؟ ألن تكون هنالك منظمة خاصة تعنى بشؤون الشباب المقاتل الذي خسر عمره وطاقته ووظيفته وبيته في هذه الحرب؟ شباب مضى على التحاقهم بساحات القتال ما يقارب سبع سنين، ومنهم أكثر، نتيجة الاحتفاظ، أليس من الواجب والامتنان لتضحياتهم أن يكرّموا بعد الحرب بوظيفة ومنزل على أقل تقدير؟

وأما بالنسبة للشباب المهاجر والمشتت في بحار هذا العالم وجباله وسهوله، فلا مانع من حملات تشجيعية تحثهم على العودة إلى الوطن الأم، وفتح الباب على مصراعيه لاحتضانهم وتقديم كل الدعم الممكن لهم ولأسرهم، فهم أمل لبناء غد أفضل، غد يبنى بسواعد الشباب السوري وحده.

العدد 1140 - 22/01/2025