البلطجة الأمريكية والعدوان على سورية والشرعية الدولية

في تشرين الأول 2015 تسلّل خمسون استشارياً عسكرياً أمريكياً إلى الداخل السوري بطريقة غير شرعية، بلا تفويض دولي ولا موافقة من الحكومة السورية، ودون إعلان حرب، لأن ذلك يحتاج إلى موافقة الكونغرس الأمريكي. ثم تنامى العدد عام 2016 إلى 500 من القوات الخاصة، مع وضع قوة تدخل سريع في الكويت بلغت 1000 رجل كاحتياط يجري نقلهم وفق التطورات، ثم أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية رسميا عام 2017 أن عدد قواتها الخاصة في سورية بلغ 2000 فرد، إضافة إلى 4 آلاف آخرين تابعين لقوات التحالف الدولي.

وكشفت وكالة الأناضول التركية، بعد تضارب المصالح بين تركيا وحلفائها الأطلسيين حول الاستعصاء الكردي، عن وجود 10 قواعد أمريكية داخل الأراضي السورية، منها قاعدتان جويتان في الرميلان، وخراب عشق (جنوب كوباني)، إضافة إلى ثلاث قواعد في محافظة الحسكة، واثنتين في منبج، واثنتين في الرقة، وواحدة في صرين (شمال غرب كوباني)، تتضمن هذه القواعد مع العتاد العسكري المتنوع ضباطاً لتنسيق القصف الجوي والمدفعي، ومخططين للعمليات العسكرية، ومدرِّبين ووحدات قتالية.

ومن المعروف الوجود العسكري الأمريكي البريطاني داخل الأراضي السورية في قاعدة التنف (على المثلث الحدودي السوري الأردني العراقي)، التي نشرت فيها القوات الأمريكية صواريخ (هيمارس) ويجري فيها تدريب مجموعات إرهابية مسلحة، معظمهم دواعش فارّون من الرقة، حسب ما أفادت به أجهزة الرصد الروسية، ومن تلك القاعدة يعتدى على الجيش العربي السوري.

تتخذ الولايات المتحدة من داعش ذريعة لوجودها على الأراضي السورية، لكن الغاية الحقيقية هي ردع الجيش العربي السوري ومنعه من تحرير أراضيه، وصولاً إلى فرض التقسيم كأمر واقع وفق مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي بدأت بتنفيذه عملياً قبل تدخلها العسكري المباشر، من خلال دعمها غير المحدود للمعارضة السورية بين العامين 2004 و ،2005 ثم للجماعات الإرهابية المسلحة التي بدأت بتجميعها وتدريبها وتسليحها خلال العام الذي سبق آذار 2011 الأسود، الذي كانت أهم أهدافه إخضاع سورية للإرادة الأمريكية بانتحال صفة الثورة الشعبية.

استغلت الولايات المتحدة الوضع الدولي والإقليمي والداخلي، لتمرِّر احتلالها للأراضي السورية، وللهجمات الجوية والصاروخية على الجيش السوري داخل سورية دون أية ردود أفعال من المجتمع الدولي، وكأن شيئاً لم يكن، ومما ساعد على ذلك تبعية دول المنطقة وطاعتها للقرار الأمريكي، وكذلك طبيعة الثقافة الجديدة التي نشرتها العولمة في أوساط النخب والتيارات الانتهازية السورية، التي روّجت مقولة (الاستعمار أفضل من الاستبداد)، و(الصفر الاستعماري)، و(المؤامرة من الداخل)، وغيرها من مبادئ مصممة لخلق بيئة  داخلية حاضنة للاستعمار وممر شعبي لمشاريعه المدمرة، سبق أن قرأنا مثيلاتها، فقد قال جول فيري أمام مجلس النواب الفرنسي عام 1885: (تقع على الأعراق العليا واجبات تمدين الأعراق الدنيا). واعتبر أحد الحقوقيين عام 1912 أن الاستعمار ينقل مزايا الشعوب المتقدمة إلى الشعوب المحرومة منها، في محاولة سطحية لشرعنة الاستعمار والتغاضي عن روح السيطرة والاستغلال والاستبداد المحركة لنزوعه العدواني.

لقد بلغت الوقاحة حدها الأقصى مع بعض تلك النخب والتيارات، حين طالبت الولايات المتحدة بالعدوان على سورية، دون أي اعتبار للمبادئ الأساسية  للشرعية الدولية، فحقوق الدول وسيادتها المعتمدة في المادة 51 من القانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة تؤكد حق البقاء، ومن بنود هذا الحق،  حق الدفاع الشرعي الذي يشترط أن يكون هناك اعتداء مسلح من دولة أخرى، ومنها حق منع التوسع العدواني، وثانياً حق الحرية والاستقلال، ويتضمن حقّ أن تتصرف الدولة في شؤونها الداخلية والخارجية وممارسة سيادتها واستقلالها بمحض اختيارها  دون الخضوع لإرادة دولة أخرى. وثالثاً، حق المساواة، وهو أن تتمتع جميع الدول بالحقوق والواجبات نفسها، ومن بنود هذا الحق: ليس لدولة أن تملي إرادتها على دولة أخرى تامة السيادة. ورابعاً، حق الاحترام المتبادل، ويشمل احترام كيان الدولة المادي ومركزها السياسي وكرامتها وحدودها الإقليمية.

لكن الولايات المتحدة، بالاعتماد على قوتها العسكرية، تخرق كل هذه الحقوق أينما شاءت ومتى شاءت، وبرعاية المنظمة الدولية أو من دونها، ويمر الحدث في ظلمة صراع الحضارات الذي حل محل النضال الوطني.

إن الاحتلال الأمريكي وغيره للأراضي السورية هو عدوان مسلح على دولة مستقلة ذات سيادة، مرفوض، وهو عدوان على الشرعية الدولية في الوقت ذاته، ومقاومة هذا الاحتلال حق دفاع شرعي وواجب يمليه الضمير الوطني والإنساني، ودرس لمن غامر بالقضية الوطنية بصفتها أولوية تدور كل القضايا الأخرى في فلكها، وكل محاولة لتغيير هذه المكانة هو طعن في الظهر لتلك القضية وتشتيت لقوى المقاومة وتكريس للاحتلال الصهيوني منبع كل مشاكل المنطقة، فسواء كان الاحتلال صهيونياً أو أمريكياً أو تركياً، أو من قبل وكلائهم الهمج الإرهابيين المحليين، من الضروري التذكير هنا باستحالة الفصل بين ما يحدث في سورية اليوم، والأجندة الصهيونية التي تتلخص في تصريح مؤسس دولة الاحتلال ديفيد بن غوريون، بأن (عظمة إسرائيل تكمن في انهيار ثلاث دول هي مصر والعراق وسورية، وإن نجاحنا لا يعتمد على ذكائنا بقدر ما يعتمد على غباء الطرف الآخر).

العدد 1136 - 18/12/2024