بيتي آخر طابق.. هل سمعتم صوت تدفق المياه ؟!
تعود القصة إلى عشر سنوات مرت من حياتنا، ويومئذ بحثنا عن بيت جميل يأوينا بعد تشرد بلغ نحو ثلاثين عاماً.. تشرد في بيوت نستأجرها ونغيّرها بين لحظة وأخرى، وفي آخر بيت استأجرناه اضطرت صاحبة البيت أن تدعو الله عند ستار الكعبة أن نخرج منه، وبالفعل خرجنا إلى بيتنا الجديد، وكانت تلك المرأة سعيدة لعودة البيت إليها، ولأننا لم نأخذ منها تعويضاً على خروجنا.
كان بيتنا الجديد جميلاً رحباً، يمكن أن نرى من نوافذه الكثيرة الموزعة في كل الاتجاهات مدى واسعاً من الأفق وسلسلة من الجبال والسهول والهواء الطلق.
إلا أن البيت الجديد كان في الطابق الأخير من المبنى!
وعندما يكون بيتك في الطابق الأخير، فإن من الضروري أن تشعر بالفوارق بينك وبين الآخرين، وهي فوارق هامة:
عليك أن تهبط الدرج سريعاً إذا كنت مستعجلاً في الذهاب إلى موعدك أو عملك، وعليك أن ترمي التحية على جيرانك بإحراج إذا كانوا يفتحون أو يغلقون أبواب منازلهم، وعليك أن تلهث وأنت تصعد إلى بيتك وتقف بين طابق وآخر تستنشق شيئاً من الهواء.
وعندما يزورك الأصدقاء عليك أن تحكي لهم عن حسنات البيت الأخرى، وهم يراقبون خفقان قلوبهم أثناء تحيتهم لك بعد وصولهم إلى الطابق الأخير، وعليك أن تستمع إلى اقتراحات الجيران التي لاتنتهي عن تركيب مصعد لايملك أحد قيمة حصته..
وعليك أيضاً أن تعيش لحظات أخرى مميزة لايعرفها سوى أولئك الذين يسكنون في الطوابق العليا.. إنه صوت تدفق المياه!
إنه أجمل صوت تسمعه في حياتك، هو أجمل من الغناء إذا كان من يسمع الغناء يشعر بعطش شديد، وهو أجمل من صوت العصافير إذا كانت صنابير المياه مفتوحة دون أن ينهمر منها ذال السائل، الذي خلق الله منه كل شيء حي!
قبل الفجر بقليل، يبدأ تدفق المياه في الخزانات الموجودة على السطح، وعدد الخزانات يوازي عدد الشقق في البناء، وهذا يعني أن سيمفونية خالدة أسمعها عندما تتدفق المياه في تلك الساعة الساحرة!
لم أشعر بهذه الميزة لبيتي إلا هذه السنة، فقد شحت المياه، وازداد الناس من حولنا بسبب الحرب والتهجير، ولم تعد المياه تكفي إلا بالتقنين، وفي التقنين يمر يوم أو يومين دون تدفق للمياه في الخزانات، أما عندما يحين موعدنا معها، فنسمع صوت تدفقها.. نعم.. لم نكن نشعر بأهمية الثروات الغالية في بلادنا ومن بينها الماء..
لا أحد كان يعرف أهمية قطرة المياه في حياتنا..
كنا نهدر المياه على أشياء غير نافعة، لكننا الآن ننتظرها فجراً وظهراً ومساء لكي تأتي، لأنها تفرّج النفس وتفرح القلب وتعيد الحيوية إلى البيت، فهل سمعتم صوت تدفق المياه في الخزانات؟ هل تسكنون في الطوابق العليا مثلي.. انتظروا لحظات الفجر لتسمعوا واحداً من أجمل الأصوات في حياتنا.. صوت المياه التي كنا نهدرها في وقت من الأوقات!