رحلة إلى أعالي الجبال..
هل يمكن للإنسان أن يبحث عن العزلة فيجد فيها راحة نفسه؟!
وردت الفكرة بالمصادفة، واتخذ القرار سريعاً: سنذهب إلى أعلى قمة يمكن أن تكون من أجمل الأمكنة التي ترتاح فيها النفوس. سمعنا عن مكان يناسب فكرتنا، وقررنا الذهاب إليه، قيل لنا: إنه يبعد نحو ثلاثين كيلومتراً عن الطريق العام في الجبال، الطريق معروفة لكن صعبة، ومع ذلك اتجهنا نحوه بثقة، وكانت تصوراتنا أنه مجرد مشوار نقطعه في ربع ساعة!
كانت بداية الطريق جميلة ساحرة، الناس من حولنا يتحركون.. يبيعون ويشترون والحياة عادية، وكأن الطريق إلى قمة الجبل مجرد مشوار قصير، ولاشيء يوحي بأن الرحلة صعبة.
بعد نحو ساعة وكانت السيارة تصعد في الجبال، خفنا أن نضيع، فترددنا في متابعة الطريق، ثم استقر الرأي على العودة، لأننا كنا نصعد من طريق إلى طريق دون جدوى، ولا نعرف ما الذي سيحصل فوق، وما الذي سيصادفنا فيه!
بدت الفكرة مقنعة للجميع، وإن ظهرت بعض الكلمات المشجعة: الرحلة لاتكون حلوة إلا إذا كان فيها مغامرة، لتكن مغامرة في الجبال!
بلع الجميع جواباً جاهزاً: هذه الأيام لاتوجد مغامرة بسيطة!
الطريق معبد… ضيق لايكاد يتسع لسيارتين، لكنه معبد!
لم يصادفنا أحد في الطريق، لا بشر ولا طيور، فقط الصخور.. وكانت السيارة تمشي بيسر أحياناً، وأحياناً تتهالك في صعودها، وكأنها تريد أن تتوقف، أو أنها ستعجز عن متابعة الطريق!
ذكّرتني الطريق المهجورة بشيء ظل في ذاكرتي عن رواية (بيدرو بارامو) للكاتب الأمريكي الللاتيني خوان رولفو، وهو الأب الروحي للواقعية السحرية. وقال عنها بورخيس إنها من أجمل روايات العالم. قلت لمن معي:
– هذا المشوار ذكرني برواية تتحدث عن رجل يذهب إلى قريته لاستعادة ذكريات من مكان اسمه كومالا، وفيه يكتشف أنه يعايش أرواح الموتى.
توقفت عن تتمة مافي الرواية.. لم ترق الفكرة لمن معي. أحسست أن أحداً لايريد سماع بقية الحديث عن كومالا. ربما كان كل منهم يذهب في خواطره باتجاه القرار الذي اقترحناه: (العودة)، فما الذي سنجنيه من وصولنا إلى هذا المكان العالي؟ سوف يزداد يأسنا يأساً.. لن نجد إلا مكاناً مهجوراً مليئاً بالصخور وبقايا طرائد النسور، وصدى رياح عاتية قادمة من المجهول!
ظهرت سيارة بيضاء، نازلة من فوق.. هتفنا بصوت واحد: سيارة. سيارة!
لوحنا لها من نوافذ سيارتنا، فتوقفت.. سألنا أصحابها:
– هل نسير في الطريق الصحيح باتجاه قمة الجبل؟!
سمعنا رداً واضحاً:
– نعم.. نعم، صحيح..
– هل الطريق آمن؟
ضحكوا.. هزوا رؤوسهم، وتابعوا طريقهم نزولاً، فأقلعنا من جديد بسيارتنا.. قال واحد منا: هنا الدعاء مستجاب! وأضاف: ليكن الدعاء.. اللهم السلامة! وكان دعاؤنا: يا ألله.. السلامة لنا ولسورية!
وما هي إلا لحظات حتى ظهرت قمة الجبل. في قمة الجبل، لم نكن وحدنا.. لم تكن الرياح تعول في مكان مهجور.. لم يكن هناك بقايا لطرائد الننسور.. كان هناك سوريون جاؤوا من مختلف أنحاء سورية وأطيافها، وكانوا يتحدثون بحيوية ومحبة، وأمل.
لم تكن هناك كومالا كما كنت أظن.. كان هناك إرادة وحيوية غريبة بأن نرى المشهد كاملاً وبوضوح: كان الجميع ينظر إلى كل الجهات، ويتحدث عن سورية الوطن الذي لا يستطيع أحد إلغاءه.. كان الجميع على مائدة واحدة يعلنون الولاء لوطن جميل قادم اسمه ثابت راسخ هو سورية!