أوطان في الهواء
هل يملك أحد الحقّ في أن يرسم وطناً على هواه؟ قد يصحّ ذلك في مخيّلة الشعراء وحدهم، أو في هوس الحالمين أحلاماً مشكوكاً بأخلاقيتّها، فالوطن ليس مزرعة نزرع فيها ما نشاء، ونحصد ما نرغب، ولا صفحة بيضاء نكتب عليها ما نريد. الوطن جغرافية، وتاريخ يستمرّ ويمتدّ إلى مستقبل يطمح المواطنون للوصول إليه. الوطن رائحة الآباء والأجداد، بعرقهم ودمهم. وبهذا المعنى لا يمكن اختزال الأوطان برغبات أفراد مهما علا شأنهم، ومهما زعموا بارتفاع منسوب الوطنية لديهم، فراحوا ينظّرون ويرسمون أوطاناً تناسب طموحاتهم.
لا يمكن لأحد في هذا الكون أن ينهض بثورة من فراغ، فالثورات على مرّ التاريخ البشري هي حراك اجتماعي مبشّر بحلول وضع أفضل مما هو قائم، حراك يستند إلى قاعدة شعبية واسعة، وقادرة على فعل ما تريد، وذلك ممكن، بل هو ضروري، لأنه يتشكّل من رغبة المواطنين الحقيقية بذلك الانتقال، رغبة لا يختزلها شخص ولا مجموعة أشخاص، وإنما تفرز القاعدة الشعبية الواسعة ممثلين لها، ممثلين قادرين على الوصول إلى ما يريدونه من دون أن يخرّبوا ويدمّروا ويقتلوا، وإن أي حراك قائم على القتل والتخريب وإلغاء الآخرين هو حراك فوضويّ، يقوّض أكثر مما يرمم، ويهدم أكثر مما يبني.
وما يجري الآن في وطننا سورية لا يمتّ إلى الثورة بصلة. هو حراك فوضوي، أو على الأقلّ بدأ فوضوياً، ثم نظّم بطريقة تجعله سلبيّاً بشكل مدمّر. وما يحصل الآن في المدن والبلدات أكبر دليل على هذا التوصيف، إذ نجد القتل والدمار والخراب مرافقاً له أينما حلّ وكيفما تحرّك. وما نراه من إفرازات هذا الحراك لقياداته يثبت أنه سائر بعكس منطق الأشياء، فالقيادات، منطقيّاً، هي التي توجّه الثورات بعد اكتمال ونضج الأهداف، وبعد حسابات لا تخطئ عن السلبيات والإيجابيات التي ستطرحها الثورة بعد قيامها. ومن البديهي أن يتمتّع قادة الثورة بمواصفات، وأن يحملوا أفكاراً ووعياً أكثر وطنية من القيادات القائمة على حكم المجتمع، ساعتئذٍ يحق لهم أن يحكموا ويقودوا، وإلاّ فلن يجدوا المناخ الشعبي المشجّع، ولا القبول الاجتماعي المطلوب، وإن قُدِّر لهم الوصول، فهم إلى زوال سريع، لافتقادهم أهمّ متطلّبات البقاء، وضرورات القيادة والإدارة.
وبقليل من التأمّل ندرك عمق الفجوة بين هذه المعارضات المطروحة على الساحة وبين قواعدها الشعبية، ومدى التناقض بين ماهو مطروح نظريّاً وبين ما هو قائم على أرض الواقع. هذا التناقض والاختلاف مردّه إلى الولادة غير الطبيعية لما أسموه ثورة، يتمظهر في تعدد المعارضات من حيث الأهداف والمبادئ والسلوك، وفي الغالب الأعمّ للوصول إلى حالة مرفوضة اجتماعياً ووطنياً. لا لسبب إلاّ لأن هذا الحراك هو في الأصل عبارة عن رغبات فرديّة قائمة على محاولة إلغاء الآخر، إن لم نقل إنها قائمة على ثارات شخصية، ورغبات ذاتيّة، ولو كان ذلك كله على حساب الوطن والمواطنين.
ما من أحد إلاّ ويطمح بوطن أفضل وأجمل، هذا هو الأمر الطبيعي، ولكن إذا كثرت الشكوك حول الأهداف والوسائل، سيعمل المجتمع على إفراغ هذا الحراك من مضمونه، ويفضح نوايا القائمين عليه. وهذا ما يحدث الآن بعد ما يقارب السنتين على بدئه، فالشعب مهما بلغ من بساطة قادر بالفطرة على اكتشاف ما يراد له، وما يُدبّر للإيقاع بوطنه، كما يدرك تماماً بعد هذه المدّة الطويلة أن ما هو مطروح من شعارات إسقاط النظام لن يؤدّي إلاّ إلى إسقاط الوطن بمجمله، وهذا أمر مرفوض شعبياً ووطنياً وأخلاقياً.