سيدة العواصم
يا جلق الشام أعيش في هذيان وأبتلع الغصات تناوباً، يا أماه تتناهشني الآلام والأحزان منذ بدأت أسراب الغربان تنعق في سمائك، وخفافيش الظلام ترفرف في فضائك، تشلّني روائح الفتنة والبارود ويدمي قلبي هذا الغدر المرعب من الإخوة والأصدقاء.
منذ متى يا دمشق جارت عليك السنون، وأنت سيدة تفوح من جنباتها روائح الحبق والياسمين ؟ أنت التي ما رددت يوماً لاجئاً ولا ضيفاً ولا مستغيثاً أو ملهوفاً. لماذا كل هذه الدماء ؟ ولماذا كل هذا الدمار ؟ منذ آلاف السنين كنت حاضرة العواصم وسيدتها، كنت توزعين الأمن والمحبة على كل الناس، حاضنة المشردين والوافدين من تركمان وأتراك وشركس وأرمن وأكراد وعرب فلسطينيين وعراقيين ولبنانيين وأردنيين وغيرهم.
من أين لنا أن نعلم أن إخوة لنا سيكيدون لك ويقودون الفتنة خفية وجهاراً مع فلذاتك. كيف يخاصم السوري السوري وهو الذي كان مثلاً للمحبة والوئام ؟ كيف يقتل السوري السوري وهو الذي احتضن بإنسانيته الأغراب جيلاً بعد جيل؟
كيف يا دمشق تنام العصافير اليوم على أغصانك التي ما انحنت لعواصف ولا أعاصير ؟ هل مازالت تزهو بين أغصان النانرج وأزهار الرمان ؟ أم أسبلت جناحيها وجفلت من أزيز الرصاص والانفجارات ؟ أم غفت على حسرة في أعشاشها تحلم بالغد الآتي يحمل معه السكينة والأمان؟ كيف يا دمشق تراق في ربوعك الدماء وأنت التي ما أرقتها إلا في مقارعة محتل مغتصب، أو معتد مارق ؟ كيف يا دمشق أصبحنا نصحو على صوت الرصاص، ونمسي على أخبار القتلى والقتال ؟
يا أم الجياع والفقراء دثّريني، فأنا أشعر بالبرد الذي ما شعرت به يوماً وأنا أتفيّأ بظلك. دثّريني فأنا أرتجف من الخوف الذي ما عرفته يوماً وأنا في حضنك، وكنت أتساءل كيف يكون ؟
لست وحدك في هذا الضياع، فكلنا في مراسم الصدمة والهذيان سواء. لك يا دمشق أزهار الربيع وشموخ البيلسان، ولهم مواكب الرحيل محملة بالخيبات، لك القصائد الجميلة ولهم المراثي والأحزان، لك الحضارة والتاريخ والتراث والعلم، لك كل شيء، ولهم نشيج الأوهام ونشاز الأحلام وحسرات الطامعين. وسيعود الاستقرار والأمن والأمان إلى ربوع سورية التاريخ والحضارة، ستبقى أصوات المآذن تكبر صلوات المحبة والإخاء، وأجراس الكنائس تتلو نشيد السلام الأبدي، وتراتيل الموحدين وترنم الحكمة لكل من ضل في هذا الوطن.
دمشق لو كل براكين الأرض صبت عليها ستبقى كرامتها وعزتها شامخة.