أمنيات على البطاقة الذكية

وعد حسون نصر:

هي بطاقة صنّفوها بالذكية، أعطوها قيمة مادية وبهرجوها، فأصبحت تُحدّد لنا عدد أرغفة الخبز، تُحدّد لنا مواعيد الدفء وأوقات طهي الطعام. بطاقة باتت توجّهنا وتُهذّب طريقة استهلاكنا للمواد، تُشذّب البذخ الكبير لدينا وتُعلّمنا التوفير لدرجة أنها أصبحت الجزء الأهم في حياتنا: وقود سيارتنا مرتبط برسالتها، عليها تقوم تحركاتنا ومشاويرنا وذهابنا وإيابنا، وكلّ حركة من حركاتنا وكل تصرّف من تصرّفاتنا اليومية، حتى بتنا رهن هذه البطاقة! غدت حياتنا كلها رهينة بطاقة تفتقر إلى كل مقومات الحياة شبه الكريمة. لقد أصبحنا، والحقّ يُقال، أكثر تنظيماً بمسائل الأكل والدفء والتنزّه، أمّا عن نوعية الأكل والدفء والتنزّه، وأمّا عن الذل والقهر الذي نعانيه لدى كلّ استخدامٍ لها فذلك حديث آخر. بالمقابل، صار أسهل على الحكومة أن تعدّ أنفاسنا، وأن تعرف بالضبط متى اشترينا ربطة الخبز، واللحظة التي استلمنا فيها أسطوانة الغاز …إلخ.

رويداً رويداً بدأت تتقلّص المواد المدعومة عبر هذه البطاقة لتصبح مجرد كرت يرافقنا في كل مكان وزمان. ففي البداية سقط منها الزيت الذي نطهو به طعامنا، ثم غادرها الرز قوت شعوب العالم والوجبة الرئيسية على موائدنا، كذلك رحل عنها السكر، فأدركنا أن القادم بات أشدَّ مرارة. قيّدونا ببطاقة مدفوعة الثمن، وبعد عدة سنوات اكتشفوا أنها لم تعد صالحة وأن فيها هفوات، ففكروا أن يصلحوا هذه الهفوات وقرروا بالإجماع أن يستعيضوا عنها بحساب شخصي ودعم مادي، لتصبح كفتا الميزان متساويتين ما بين الشعب والحكومة، فاتجهنا نحو المصارف لنفتح حسابات مصرفية كي ننال الدعم المطلوب والمرغوب على بطاقة ليست ذكية بل بطاقة صراف، ظنّاً منهم أننا سنصبح بفضل قراراتهم هذه ضمن قائمة الشعوب المُكتفية التي تدفع عبر البطاقة الإلكترونية! لكن غاب عنهم أننا تحت رحمة مجموعة من اللصوص سرقوا، قبل نقودنا وقوتنا، أحلامَنا الوردية، ولوّنوا الحياة أمامنا بلون الحزن!! فبلاد الخير والفصول الأربعة، بلاد البركة والحقول الذهبية ومواسم الزيتون، بلاد الفاكهة الصيفية وحمضيات الشتاء وكروم العنب، بلاد الأرض السمراء والتراب المفعم بالمعادن تحتها تقطن الآبار الغزيرة عماد الحياة، الآن هي بلاد عطشى حرقوا مواسمها، نضب زيتها وقلعوا أشجار زيتونها، حرقوا قمحها وبات اللون الذهبي أسود!

سرقونا عبر بطاقة ظنّوا أنها ذكية، والآن يريدون أن يسرقوا ما تبقى من أيامنا عبر بطاقة صراف إلكترونية، ما ذنب هذا الرجل الطاعن في السن أن يقف لساعات على نافذة كي يحصل على مبلغ مادي أقل بكثير من سعر السلعة المدعومة؟ ألا يكفيه ذلاً وقهراً؟  ألا يكفيه سنوات عمره الأخيرة يقضيها تائهاً ما بين بنوك الصرافة ومراكز المواد المدعومة؟ حياتنا باتت بين أيدي أُناس يخطّطون لنا المستقبل الغامض عبر أوهام صنعوها على بطاقة غبيّة وهمية. حياتنا كلها قُيّدت بسلاسل رغيف الخبز وكيلو السكر والرز وليتر واحد من الزيت، وخمسين ليتراً من المازوت وجرّة غاز كل ثلاثة أشهر. حياتنا لم يعد فيها شيءٌ ورديّ، باتت حزينة مُتّشحة بالسواد، سقف طموحنا صار الحصول على قوتنا اليومي، على كمشة دفء يخفّف الصقيع في أرواحنا. تمضي أيامنا ونحن نَعِدّ يومنا البائس لنستقبل غدنا بدعاء ورجاء وابتهالات تُخفّف عنّا بؤسه علّه يكون أرحم من سابقه، الكهل بات يعد الأيام، والشّاب بات يرسم الأحلام بمخيلته فقط علّها تصبح حقيقة، الطفل الناجي الوحيد من البطاقة الذكية مازالت أحلامه تتأرجح بين الكرة والثياب الجميلة المُزركشة بالألوان الزاهية، ليتنا جميعاً بقينا أطفالاً ولم نعرف هذه البطاقة!!

العدد 1132 - 13/11/2024