عالم الوهم بين الحقيقة والحلم

د. عبادة دعدوش:

في عصر السرعة والتكنولوجيا، أصبحت سماء (السوشال ميديا) مليئة بمن يُلقّبون بالنجوم اللامعة، حيث تُعرض صور الحياة المثالية واللحظات السعيدة كأنها هدايا مجانية وكأنهم أسعد البشر! لكن المشكلة أن ما خفي أعظم، فخلف هذه الصورة الوردية الكثير من الجهد والإخفاقات والتجارب النفسية والمشاهد التمثيلية، وربما الكثير من الكذب والنفاق. فهل ما نراه على منصات (السوشال ميديا) هو بالفعل تعبير عن الحياة الحقيقية، أم هو مجرّد وهم يمتزج بالخيال والحلم؟

في مقالنا هذا، سنتناول الفرق بينهما وما يترتّب على ذلك من مشاعر تناقض وعقد نفسية تؤثر على كل فرد فينا مهما بلغ عمره أو قدره .

الصورة الجذابة والحياة المثالية هي واجهة الحياة على منصات (السوشال ميديا)، حيث نجد الكثير من صور الضحك، السفر، النجاح، الأصدقاء والجمال، المال والأماكن الفخمة والرفاهية المطلقة. الكل يبدو دائماً في قمة السعادة، وكأن الحياة عبارة عن سلسلة من اللحظات المثالية التي لا تنتهي، لكن ما لا ندركه هو أن هذه الصور غالباً ما تكون مختارة بعناية، فقد خضعت لعمليات تعديل ومنتجة ولمشاهد تمثيل ونفاق من الطراز الأول، وهذا ما يُصرّح به أهم صناع محتوى والفلوغر العربي والعالمي، فأغلب نجوم (السوشال ميديا) لا يُظهرون لحظات الضعف والقلق والخسارات التي يمرون بها كبشر، بل فقط الحياة المشرقة والوردية.

هنا يظهر الفرق الجوهري بين الحياة الحقيقية، التي تُعكَس فيها المشاعر بكل شفافيتها، والحياة التي تُروّج لها (السوشال ميديا)، والتي تتحول إلى منتج متكامل يخفي الكثير من الواقع.

في الحقيقة إن الخطورة ليست هنا، بل في المقارنات القاتلة التي يقوم بها الناس وخاصة فئة الشباب، فعندما يتصفّحون مواقع التواصل الاجتماعي ويبدؤون بالمقارنات، سيتوّلد عندهم شعور عارم بالنقص، وصولاً إلى الإحباط واليأس. فمع ازدياد هذا الانجذاب نحو الحياة المُصطنعة، يبدأ الأفراد في القيام بالمقارنات المُدمّرة، فيصبح الشخص عالقاً في دوامة من التفكير: (لماذا لا أعيش مثلهم؟)، (لماذا لا أستطيع تحقيق مثل هذه النجاحات؟)، هذه المقارنات تُحفّز مشاعر النقص، ما يؤدي إلى القلق والاكتئاب. في حين أن النجاح والسعادة هما أمور نسبية تختلف من شخص إلى آخر، ففي الحقيقة أن (السوشال ميديا) تجعلنا نشعر بأن الحياة حقل من المنافسة المستمرة وبدوامه لا متناهية من النقص ومحاولة إشباعه. فعندما نمضي وقتاً طويلاً في تصفّح الصور ومقاطع الفيديو، تتسلل فكرة (ماذا عني؟) داخل أذهاننا. نشعر بأننا غير سعداء أو مكتفين في جوانب مُتعدّدة من حياتنا سواء كان ذلك في المظهر، أو النجاح المهني، أو العلاقات الاجتماعية. وتتزايد هذه المشاعر مع كل (لايك) يحصل عليه منشور لشخص آخر، فهي تُعتبر بمثابة مقياس غير موضوعي للقبول والنجاح.

عقد داخل عقد: إن عقدة (السوشال ميديا) تولد لدينا جميعاً عقداً نفسية نصبح معها مساجين أذهاننا حين تتحوّل هذه المقارنات إلى ما يُعرف بالعقد النفسية، فيشعر الفرد بأنه محاصر في صورة واحدة لا تتوافق مع واقعه. من الممكن أن تؤدي هذه المشاعر إلى الاكتئاب وفقدان الهوية، وهنا يبدأ الشخص في التقليل من قيمته الذاتية، ما ينعكس على علاقاته الاجتماعية وصحته النفسية في عالم يسعى الجميع فيه لعرض أفضل ما لديهم. والكثير منا ينسى أن الصدق والضعف هما ما يجعلاننا بشراً.

والسعي اليومي لتحقيق ما نراه على (السوشال ميديا) هو ليس ما يتوافق مع واقع الإنسان وظروفه وحتى مع الطبيعة الإنسانية، فهذا الأمر يؤدي إلى الشعور بالوحدة والانعزال وحالة من اليأس والإحباط.

سألتُ نفسي عدة مرات: هل نستسلم لهذه العقد وهذه السجون، وكان جوابي لنفسي دائماً: عُدْ إلى طريق الواقعية وحاول بناء حياة بسيطة لكنها حقيقية. قد يبدو العالم الرقمي مشوّقاً، لكنه لا يمكن أن يكون بديلاً عن التجربة الحقيقية. من المهم أن نبدأ في إعادة تقييم علاقتنا بـ(السوشال ميديا). وأن نقيّم أنفسنا بصدق وفخر بمعنى حياتنا وغاياتنا بعيداً عن المقارنات والآخرين والعقد النفسية والشهوات التي ليس لها نهاية.

أغلبكم يتساءل: كيف يمكننا أن نعيش حياة بسيطة ولكن حقيقية؟ إليكم الإجابة:

أولا- المسؤولية الذهنية: خذ وقتاً للاحتفاظ بمساحة لنفسك بعيداً عن (السوشال ميديا). هذا سيساعدك على أن تكون أكثر وعياً بما تجده هناك.

ثانياً – انظر ما وراء الكواليس: عندما ترى صورة تثير لديك مشاعر النقص، تذكّر أنه وراء تلك الصورة قصة، وقد لا تكون الأمور كما تبدو.

ثالثاً – احتضان العيوب: تعلّم أن تقبل نفسك بكل عيوبك ومميزاتك. الحياة ليست مثالية، وهذا ما يجعلها غنيّة ومعقّدة.

رابعاً: اجعل النجاح مقياساً شخصياً، قم بتحديد أهداف خاصة بك ولا تقارنها مع الآخرين، فالنجاح هو أن تكون في المكان الذي تريده، دون الحاجة إلى الضغط أو المقارنات.

وأخيراً، الحياة الحقيقية ليست كما يظهرها عالم (السوشال ميديا)، الحياة تتطلب الشجاعة، القناعة والاكتفاء والتقبّل. إذا كانت هذه المقارنة بين الحياتين تُضرُّ بنا، فلنضع حداً لها. لنبدأ في البحث عن الجوانب الجميلة في حياتنا مهما كانت صغيرة، ونعيد تعريف السعادة من خلال عدستنا الخاصة، بعيداً عن ضغوط عالم الوهم (السوشال ميديا)، لأن الحياة الحقيقية تعني في النهاية أن نكون أنفسنا، بأفضل ما نستطيع.

العدد 1132 - 13/11/2024