الذئب أرحم من إخوتي.. يا أبتِ!

د. نهلة الخطيب:

يعيش الشرق الأوسط أحوالاً معقدة ومتشابكة وخطرة تتداخل فيها العلاقات الإقليمية والدولية، وتعكس صراعات القوى الخارجية الساعية للعدوان والهيمنة، هناك فائض من الألم في الشرق الأوسط: ألم عراقي، وألم سوري، وألم فلسطيني، وألم لبناني، الفلسطينيون منذ 76 سنة يعيشون في زاوية آلامهم المديدة من كيان احتل أرضهم وشردهم وما زال يعتدي عليهم، ارتكبت إسرائيل جرائم ضد الإنسانية في غزة، وما زالت عمليات الإبادة مستمرة فضلاً عن انتهاكاتها في الضفة، فمعركتها ليست مع حماس وحسب، بل مع الشعب الفلسطيني كله بوصفه الحقيقة التي تثبت زيف ادعاءاته، ولذلك كان العدوان مستمراً منذ عام، وطال عدوانها لبنان، هجرت آلاف اللبنانيين ودمرت منازلهم.

الشرق الأوسط على مفترق طرق، مع غياب حالة عربية للتعامل مع الاحتمالات التي سيواجهها، أو حتى التأثير عليها، فالشرق الأوسط هو المنطقة الوحيدة التي أعلن الأمريكيون رغبتهم في ملء الفراغ فيها، كأن لا بشر ولا دول على أرضها، مع يقينهم أن التطبيع سينطلق بديناميكية أقوى بعد الحرب، وهو المنطقة الوحيدة في العالم التي تحتوي أكبر عدد من القواعد العسكرية الأمريكية، وربما أكبر قاعدة عسكرية زرعتها في المنطقة، هي إسرائيل لرعاية مصالحها كوديعة أمريكية، وحماية حقول النفط وشرايين الطاقة ومنابعها المتمركزة فيها، لنفترض جدلاً أن القضية الفلسطينية انتهت ووضعت أوزارها للأبد، فهل سيهنأ العرب ويعيشون بسلام؟؟؟

طبعاً لا، ألم تصل إلى آذانهم تصريحات الخامات الصهاينة والوزراء المتطرفين ليدركوا المخاطر التي سيواجهونها إذا ما انتهت فلسطين، فلسطين بصمودها وثباتها تمثل درعاً واقياً للأمة العربية بأسرها وتقف وحدها في مواجهة التمدد الصهيوني في ظل عجز عربي شامل واختلال كبير في موازين القوى الذي سيطولهم عاجلاً أم أجلاً.

في رأي العديد من المحللين أن الشرق الأوسط أمام طريقين: إما الانفجار الذي يستتبع اعادة تشكيل الخرائط والدول والركام، أو وضع حد نهائي للصراع العربي الإسرائيلي، وأن إيجاد حل عادل وشامل لا يتوقف على الفلسطينيين وحدهم، فهو غير ممكن إلا في سياق عربي وعالمي مغاير يحمل تغييراً حقيقياً في موازين القوى.

بدا من اليوم الأول للحرب في غزة، أن الولايات المتحدة الأمريكية تريد تطويق الصراع مخافة توسع الحرب في المنطقة، هي لا تريد التصعيد، سواء على الجبهة الشمالية مع حزب الله، أو مع إيران، ولكن الولايات المتحدة الأمريكية كالمطرقة ترى كل شيء كالمسمار، لا تستطيع مقاومة إغراء القوة، وتريد ممارسة مزيد من الضغط السياسي والدبلوماسي، وخلق بؤر توتر هنا وهناك، تزداد سخونة يومياً، فبدل أن تتعامل مع الوضع بمجمله، وتتعامل مع جذور المشكلة، تعمل على أن لا يكون هناك خطوط حمراء لإسرائيل، تسمح لها بممارسة مزيد من المجازر، وعمليات التهجير والتطهير العرقي ضد الشعبين الفلسطيني واللبناني، دون مراقبة أممية ودولية، تعتبر إسرائيل أكبر متلقٍّ للمساعدات العسكرية الأمريكية، إضافة إلى كل أشكال الدعم السياسي والدبلوماسي، وأثبتت الولايات المتحدة الأمريكية أنها شريكة بالمطلق في كل الجرائم المتقادمة والحالية بحق الفلسطينيين، والجديد الأمريكي هو نشر طائرات B52 في منطقة الشرق الأوسط وهي أكبر قاذفة استراتيجية عن بعد لحماية إسرائيل في الوقت التي تشهد أمريكا الساعات الأخيرة الحاسمة للانتخابات.

بايدن الصهيوني حتى الثمالة الذي لم يتوقف عن التبشير بدولة فلسطينية منزوعة السلاح، بعد إخفاقه في فرض وقف لإطلاق النار ووقف المذابح، إنها حل اللاحل، ولا تتجاوز عتبة التمنيات، اعتادت أمريكا رسم الخرائط وإعادة رسمها، وهو مطروح من مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، وبقيت حبراً على ورق، ولن تكون أي شكل من أشكال الدولة الفلسطينية مع نتنياهو وحكومته المتطرفة، فكيف يمكن أن تنجح هاريس في التوصل إلى حل سلمي للصراع في حال فوزها؟!

أما احتمال فوز ترامب فهو حكاية أخرى، وسيكون تأثيره كبيراً على الشرق الأوسط ومختلفاً عما هو عليه الآن، وخاصة دول الخليج، وإيران، التي يأخذ ترامب منها مواقف عدائية، وسيزيد من عزلها ويكسر الاتفاق السعودي الايراني، وينسف الاستراتيجية الجديدة التي اتخذتها دول الخليج القائمة على موازنة القوى وتنويع تحالفاتها، بصياغة علاقات جديدة مع الصين وروسيا، وينعش الاتفاقات الإبراهيمية، وربما يجبر السعودية على إتمام التطبيع مع إسرائيل، ليفتح المجال أمام دول أخرى، ويجري التركيز على السعودية كدولة محورية ومؤثرة، من خلال التطبيع، وما لهذا التطبيع من تداعيات على الاتفاق السعودي الايراني، وتهديد للمصالح الجيوسياسية للصين ولإيران.

بعد عام من الحرب نشأ بمبادرة سعودية التحالف العالمي لحل الدولتين، وإقامة دولة فلسطينية كشرط سعودي لإتمام التطبيع مع إسرائيل، في وقت لا يوجد بديل سلمي ولا حتى أفق لتسوية، وهذا يتمحور حول إعلان يهودية الدولة التي تعتمد بوجودها على تغيير ملامح الشرق الأوسط، رؤية كسينجر: (العقل يهودي، والثروة والأيدي العاملة عربية)؟!! ولتمرير مخطط إحياء المنطقة من خلال الخط الهندي وقطع خط الحرير الصيني تحت نظر إيران.

في ظل هذه الأحوال المؤلمة تختلف الاصطفافات والمواقف والأصدقاء والأعداء والحلفاء، ولا يخفى على أحد مشاريعهما في المنطقة، فاصطدمت المشاريع، لصراع أكبر من غزة، إسرائيل التي عملت على إنشاء مشروع نيوم، والاتفاق الهندي الأمريكي الخليجي، الذي ينتهي بميناء ايلات وميناء العقبة، مروراً بالإمارات والسعودية للتحكم بالوارد النفطي، وبذلك تكون تركيا وإيران خارج اللعبة، وإسرائيل هي المتحكم الوحيد، طبعاً تركيا أطلسية الهوى، تبقى إيران بمواجهة إسرائيل الراغبة بهذه المواجهة.

مجازر غزة لو حدثت في أي منطقة أخرى في العالم لاهتزت هذه المنطقة، هنا لا شيء سوى التنديد والاستنكار، عندما يعجز العرب عن القيام بواجبهم تجاه غزة وأهلها، فإننا سنشاهد أفلاماً تعد سيناريوهاتها في الغرف المظلمة للتضامن مع إسرائيل، يستخدمون القضية الفلسطينية ورقة تفاوضية لإحلال السلام الموهوم، صمت السعودية الشريك الاقتصادي الأهم لأمريكا، وعدم استخدام نفوذها لإيقاف الحرب في غزة هو عين التطبيع. غزة تحولت إلى جحيم، وهستيريا الدم تؤكد ما تمضي به إسرائيل لتحقيق حلم (إسرائيل الكبرى).

إسرائيل تتوهم أن القوة العسكرية وحدها قادرة على جعلها آمنة، بينما ما يحصل عملياً أن سياساتها العدوانية المستمرة تولّد دائماً قنابل موقوتة قابلة للانفجار في أي وقت.

العدد 1132 - 13/11/2024