ماذا زرعنا حتى نجني كل هذا الخراب؟!

د. نهلة الخطيب:

كم كنت وحدك! أجل نحن وحدنا، واحد ضد الكل! وهل كنت يوماً إلا وحدك؟؟!! فلا أحد يكترث بنا كعرب وكفلسطينيين، بل بكيفية إزالة آثارنا ودفننا، ثمة تراجيديا حدثت وتحدث في غزة، فالمشروع الصهيوني مستمر، بل ويتعاظم، وقد وصل إلى حد الجنون، الأمريكيون الغارقون في الأزمات الداخلية والأزمات الخارجية يتدخلون باسم الإنسانية لحماية إسرائيل وخروجها منتصرة، بايدن، دون أن ندري ما إذا كان يعاني من تراجع في الذاكرة، أو في قدراته العقلية، يريد أن يتجنب وقوع حرب في المنطقة، وهو من يشعلها، بالاعتداء والانتقام العسكري والاغتيالات لتصل الى رأس حسن نصر الله ويحيى السنوار، فيما يمد إسرائيل بأحدث الأسلحة وبأدق المعلومات الاستخباراتية والمساعدات اللوجستية. بايدن الذي أرسل إلى نتنياهو كمية من القنابل يتعدى مفعولها قنبلة هيروشيما، لا يضغط لوقف إطلاق النار، بل ويعطله، يستشعر مدى التداعيات الكارثية على مصالحهم الاستراتيجية إذا ما مضت إسرائيل في حربها على غزة.

البداية كانت بضرورة جمع اليهود من أرجاء العالم في إقليم يمتلكونه ليكوّنوا أمةً يهودية، هرتزل رشح فلسطين لتحقيق الحلم، ومنذ المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 الذي عقده هرتزل وحتى يومنا هذا تعتبر القضية الفلسطينية جزءاً جوهرياً من النزاع العربي الإسرائيلي الذي نتج عنه نشوء الصهيونية والهجرة اليهودية إلى فلسطين، وتتمحور القضية حول شرعية إسرائيل واحتلالها للأراضي الفلسطينية، فالقضية الفلسطينية قضية العالم التي لم يستطع إيجاد حل لها إلى الآن، قضية جاوز عمرها سبعة عقود ويقف المجتمع الدولي عاجزاً أمامها وأمام الهولوكست الصهيوني ضد شعب أعزل، مع غياب أفق لعملية سلمية لحل الصراع الإسرائيلي العربي الذي يعكس تداعياته على منطقة الشرق الأوسط بكامله، إذ لا استقرار في المنطقة دون حل حقيقي وعادل للشعب الفلسطيني.

عملت إسرائيل  على طمس الهوية الفلسطينية وتصفية القضية وبناء المستوطنات في القدس وكل فلسطين، فمنذ نشأتها تمارس الإرهاب والعنف واغتصاب الأراضي وطرد أصحابها منها بالقوة وتنفيذ أبشع المجازر بحقهم راح ضحيتها الآلاف، نكبة 1948، كانت عنواناً لمأساتهم الوطنية والإنسانية والأخلاقية، الفلسطينيون يعيشون الآن نكبة ثانية في غزة في حربها المستمرة، بين نكبتين، ونحو مزيد من سياسات التهجير القسري والتصعيد غير المسبوق لعصابات صهيونية متطرفة يرأسها نتنياهو، سعت وما تزال إلى أن تشكّل حسب ما يدعون وطناً قومياً لليهود في العالم في أبشع عملية تطهير عرقي واغتصاب لم تشهد البشرية مثيلاً لها بحق أرض وشعب له تاريخه وجذوره العميقة الراسخة في أرضه، (فالبنية العقائدية التوراتية لإسرائيل هي بنية ترحيل، وإسرائيل دولة صافية ليس من الآن بل منذ المؤتمر الصهيوني الأول، وإذا قامت الدولة الفلسطينية فهي خنجر بخاصرة يهوا، بخاصرة الله، فنحن نقاتل البرابرة)، فهم يرون في الجثث المكدسة في الشوارع، أو تحت الأنقاض ضرورة إلهية لتطهير أرض الميعاد من تلك الحيوانات البشرية.

غزة تحولت إلى جحيم، وغريب أننا لم ندرك من هي إسرائيل، إسرائيل المشروع الأمريكي في الشرق الأوسط، ستدافع عنه بكل ما أُوتيت من قوة، جيرالد فورد وجسر من الأسلحة والذخائر، إقامة كيان عنصري غاصب وترسيخ وجوده على الأرض الفلسطينية، لا قيم تحكم السياسات الأمريكية، فعندما تتحرك يتغير العالم، في الحرب العالمية الأولى تدخلت، فأنشأت عصبة الأمم وغيرت خارطة أوربا، وفي الحرب العالمية الثانية تحركت، ضربت اليابان بالنووي وهزمت ألمانيا وغيّرت العالم، وأقامت نظاماً عالمياً جديداً، وفي 11 أيلول تحركت وتدخلت بالشرق الأوسط وغيرت المنطقة بالفوضى الخلاقة، ولكن دائماً الحسابات الخاطئة تذهب إلى مكان آخر. فاستراتيجيتي مبنية على استراتيجيتك أنا أبني ما أنت عليه الآن.

نحن أمام مرحلة جديدة لها تداعياتها الكارثية، هي حرب قد تتحول إلى صراع كبير وربما طويل، تعيد تشكيل الجغرافيا السياسية والإقليمية من جديد، وقد يكون اليوم التالي للحرب أكثر فظاعة من أيام الحرب، ولن يكون أحد بمنأى، وستطولهم الفوضى الجيوسياسية في المنطقة، لعبة الخرائط وصلت إلى النهائيات، والموضوع ليست غزة وهي آخر خط دفاع لتغيير خارطة الشرق الأوسط، وهي البوابة إلى مرحلة جديدة في المنطقة، بالمنطقة مشروع أمريكي فقط، ونحن جزء من هذا المشروع فهذه، الثقافة الأمريكية، ثقافة إبادة الهنود الحمر مسيطرة على العقل السياسي الأمريكي، دولة فرضت فلسفة حياتها وثقافتها بالعولمة والتكنولوجيا وهيومن رايتس، ولم تستطع أن تواكب المسار الأخلاقي بالمسار التكنولوجي، فما زالت تستخدم القوة والقتل بدم بارد. طبعاً الشرق الأوسط الجديد الذي سوق له نتنياهو، والذي يقوم على أنقاض دول ودماء عربية، لطمس الهوية القومية، اعتادت أمريكا رسم الخرائط وإعادة رسمها، فالمنطقة العازلة جزء من لعبة الخرائط، واقتطاع الجنوب اللبناني والشمال الليطاني بعمق يصل إلى 10 كم، وإبعاد حزب الله لعمق يصل إلى 40 كم، مقدمة لاحتلاله وترحيل عرب الجليل إلى لبنان. فلسطين مهددة بنكبة أخرى!!

كعرب نحن دول ضعيفة مشتتة، مجتمعات متفرقة، بقايا بشرية تصر على البقاء ما تحت الزمن، دون أن يكون لها موطئ قدم على المسرح الدولي، خارج إطار النفط لا يوجد لها أي تأثير حقيقي على العالم، كل ذلك تجلى في سياساتها، لا يوجد لها أي عقيدة أو مشروع وجودي تقوم عليه، لا يجمعها مصلحة مشتركة بغض النظر عن المغازلات القومية، ما يحدث في غزة، حيث المذبحة الأشد هولاً في القرن، تجري أمام أعين الداني والقاصي، غرب وعرب، منظمات وهيئات دولية، هي امتداد لثقافة النكبة  منذ 76 عاماً، ولو حدثت في أي منطقة في العالم لاهتزت هذه المنطقة، التعاطف لم يكن بحجم الكارثة، لا شيء سوى تعبير عن القلق والرفض، أو التحذير من العواقب، إحصاء الشهداء، بكاء وعويل على الجوعى، ومما يثير الدهشة أن الدول العربية  تشاهد كل ما يحدث راهناً، لم تستجب بشكل قوي، أو لم تستجب على الإطلاق، ولم تقم بأي خطوات تجاه إسرائيل بل بالرد العاطفي، وتستخدم أفعال حماس للتقاعس، والهروب من مسؤولياتها، نعم.. غزة عرّت الجميع، فدعونا ننسى أننا عرب.

الفلسطينيون (أمة الآلام)، قاوموا وصبروا، ولكن أن يموت أبناؤهم أمامهم من الجوع، هذا ما يصعب على الإنسان تحمله، إذ لم يكتفِ الاحتلال وداعموه من أمريكيين وأوربيين، بارتكاب كل الموبقات، نهب وتخريب وابادة جماعية وتهجير وترحيل كعقوبة جماعية، وانتهاك للأعراف والقوانين الدولية، جرائم ضد الإنسانية، وذلك خلافاً لكل المواثيق والأعراف والمعاهدات الدولية، ومع ذلك لا تتوانى إسرائيل اليوم عن إبادة آلاف من سكان غزة، فيما كثيرون آخرون لا يزالون تحت الأنقاض، وطرح علني لتهجير جماعي للفلسطينيين قسراً، ودفع مليونين من سكان القطاع إلى الصحراء، محاولة إسرائيل تغطية الفشل بارتكاب المذبحة تلو الأخرى، والرغبة في حسم الصراع بالقوة والتدمير والقتل، وخاصة أنها أمام مفترق وجودي، لكنهم أمام نوع آخر من الفلسطينيين، ظهر في الميدان القتال حتى الموت، لا دبابات ولا مدرعات ولا قوة بحرية، وفي ظروف تفوق التصور بأهوالها وبويلاتها، ليقولوا إن فلسطين ما زالت حية وستبقى حية مدى الدهر. ولم نزرع شيئاً حتى نحصد كل هذا الخراب، سوى أننا فلسطينيون!!!

 

العدد 1140 - 22/01/2025