السوريون الشركس.. مواطنون أمميون
فادي إلياس نصار:
لا مكان للكلمات الرومانسية والجمل المنمقة، عند الحديث عن أناس عاشوا حياة الجبال القاسية (القوقاز)، بطولها وعرضها، أناس لهم شخصية القائد العسكري، الفارس الشجاع، والإنسان الرزين، بلباسه الأنيق، أصحاب معنوياتٍ لا تنكسر ولا تنحني، يتخذون البطل (ريدادا) الذي ضحّى بنفسه لأجل شعبه، قدوةً لهم.. إنهم الشركس.
من هم الشركس أو (الأديغة)؟
أطلق اليونانيون مصطلح (شركس) على مجموعة من شعوب القوقاز مثل: الأبخاز، الأوبيخ، الشيشان، الوايناخ والداغستان، أمّا هم فيسمّون أنفسهم (أديغة)، ويعود تاريخهم إلى قبل نحو 5000 عام قبل الميلاد، وقد سكنوا جبال القوقاز التي تتميز بمناخٍ قاسٍ، وبيئة ذات طبيعة قاهرة.
اليوم توجد مجموعتان رئيسيتان للشركس هما: الأديغ (الشركس الحقيقيون)، والقابارد (الشركس الأعلى).

حياتهم الاجتماعية.. مميّزة
لدى الشركس قواعد حياتية، أو منظومة قيم أخلاقية -إجتماعية، تسمى خابزة Habza))، تَنظُم كل ما له علاقة بحياتهم، وتتماشى مع الزمان والمكان الذي يعيشون فيه، مبنية عل قاعدة أساسية تقول: (لا يوجد شيء إلّا وله نظام وقانون)، وهي مجموعة من القوانين والمبادئ (غير المكتوبة)، ثابتةً تقريباً لأزمانٍ كثيرة، يتمسكون بها بقوة، ويحرصون على عدم تغييرها إلّا ببطء شديد وعلى مراحل متباعدة تاريخياً.
وهم يولون المرأة احتراماً كبيراً، ويعطونها مكانةً مرموقة في المجتمع، وينبذ المجتمع الشركسي تعدد الزوجات، إلّا إذا استدعى الأمر ذلك (عدم الإنجاب)، ويُعتبر الطلاق عندهم قلة رجولة، ويحتقرون الرجل الذي طلق زوجته، وكذلك المطُلقة.
مثقفون يُحبون الحياة، يولون الموسيقا اهتماماً بالغاً، أغانيهم صاخبة، يغنون بهدف نشر التعاليم الدينية (الأديغه خابزة)، أغانٍ للحرب وأخرى للحب، وبعض أغانيهم فيها الكثير من الحزن، يرددونها كتحية للذين ماتوا في الهجرة الكبرى.
إلى جانب الموسيقا، يحتل الرقص الشركسي المشهور مكاناً مميزاً، وكان هذا النوع من الفنون سابقاً، رقصاً دينياً يحاكي الآلهة والأرباب، كما كانوا يؤدون الرقصات لوداع المحاربين قبل الذهاب للمعارك، وغالبية الرقصات يشترك فيها كلا الجنسين، ويشترك بالرقصات الفتيات فقط، أمّا المتزوجات والأرامل والمطلقات فلا يشتركن.
التاريخ الديني للشركس
في البدء كان الشركس يمارسون طقوساً وثنية، (يصلون باستخدام الماء والنار والنباتات). وكانوا يؤدون عبادتهم مصحوبة بالرقص والموسيقا، في البساتين التي كانوا يتخذونها كمعابد.
وكانوا يعتقدون أن هدف وجود الإنسان على هذه الأرض هو كمال الروح، الذي يتوافق مع الحفاظ على الشرف، وإظهار الرحمة، وعمل الخير، جنباً إلى جنب مع الشجاعة.
خلال القرن الثامن، تحولت بعض القبائل الشركسية إلى اليهودية، نتيجة للعلاقات الجيدة مع خاقانة الخزر.
فيما ظهرت المسيحية لأول مرة في شركيسيا في القرن الأول الميلادي عبر كرازة (الرسول أندراوس) ورسائله، بحسب كتب التاريخ الكنسي المبكرة.
بعدها تبنى الشركس الدين الكاثوليكي على يد (فرزاخت)، وهو شخصية مرموقة في التاريخ الشركسي.
ويعتبر الشركس، القديس جاورجيوس (مار جرجس) الشخصية الأكثر أهمية وجاذبية في جميع التعاليم المسيحية. ذلك كونه يجسد جميع الفضائل المحترمة لخيالة وفرسان القوقاز. واسمه باللغة الشركسية هو (أوشيدجر).
في نهاية القرن الثامن عشر اعتنق أغلب الشركس الإسلام، وأصبحوا سُنّة على المذهب الحنفي (بعضهم اتبع الطرق الصوفية بما في ذلك الطرق القادرية والنقشبندية).
رغم الضغوط التي مارسها الموالون لإمامة القوقاز، ظل الوجود المسيحي والوثني كبيراً بين بعض القبائل (مثل الشابسوغ والناتوخاي). وتبلغ نسبة المسيحيين بين القبارديين، اليوم حوالي واحد بالمئة.
حروبهم مع القيصر
خاض الشركس، ضد جيوش القيصر الروسي (بطرس الأكبر)، حروباً دامت مئة عام وعام، بدأت عام 1763 وانتهت في وادي (كبادا) قرب مدينة سوتشي الروسية، يوم الحادي والعشرين من شهر أيار مايو) سنة 1864.
يوم الحزن
يُحْيي الشركس في الحادي والعشرين من شهر أيار (مايو) ذكرى يوم الحداد أو الحزن، وذلك لأن القيصر الروسي بعد انتصاره عليهم انتقم منهم أشد انتقام، فتعرضوا لعمليات التطهير العرقي، وهُجِروا هجرةً جماعيةً، راح ضحية الانتقام القيصري حوالي مليون ونصف المليون إنسان من الشركس.
وقد بدؤوا هجرتهم الجماعية، تاركين أرضهم الأم شركيسيا (شمال القوقاز)، وانتظروا في العراء حوالي سنتين، تم بعدها ترحيلهم على متن سفنٍ أرسلتها الدولة العثمانية، غرق الألوف منهم في البحر الأسود، وقضى المرض والجوع على ألوف الأخرى، وأما الذين نجوا ووصلوا إلى أراضي السلطنة العثمانية، فأرسلتهم إلى مناطق سيطرتها التي تحتاج إلى الحماية، مستفيدةً من شجاعتهم وإمكانياتهم القتالية.
انتصاراتهم
خلال تاريخهم الطويل حققوا الكثير من الانتصارات، فيوم كانوا مماليك (برجيين)، استطاعوا بقيادة سيف الدين قطز، إلحاق أول هزيمة قاسية بجيش المغول بقيادة (كتبغا)، في معركة (عين جالوت- 1260م)، كما ألحقوا هزيمة تاريخية بالقوات التترية في معركة (القنجال)، التي خاضها السلطان الشركسي برقوق واسترجع فيها العراق من تيمورلنك.
الثورة البلشفية.. وجمهورية الشركس
بعد انتصار ثورة أكتوبر العظمى، جرى إنشاء منطقة الحكم الذاتي في قراشاي – شركيسيا ذات الحكم الذاتي، لأول مرة في عام 1922، حيث يعيش اليوم حوالي 200 ألف من الشركس، فيما يعيش حوالي 800 ألف من القابارديين في جمهورية قاباردينو- بلقاريا الروسية، التي تأسست عام 1936.
السوريون الشركس
يعيش الشراكس اليوم، في 52 دولة حول العالم، ويبلغ تعدادهم حوالي سبعة ملايين نسمة، أربعة ملايين منهم في تركيا، ومليون في تشركيسيا وقباردونيا، فيما يعيش قسم منهم في سورية، التي وصلوها في النصف الثاني من القرن التاسع عشر عام 1878، قادمين من السلطنة العثمانية، فاندمجوا في المجتمع، ولعبوا دوراً كبيراً في تاريخ البلاد، محافظين في الوقت نفسه، على هويتهم العرقية الخاصة ولغتهم الشركسية، (الأديغية).
قويَت علاقة الشركس بالمجتمع السوري، بعد تعرضهم لهجرةٍ جديدةٍ عندما احتلت إسرائيل الجولان (حيث كانت تقطن الغالبية العظمى منهم)، في حرب عام 1967، فبدؤوا بإدخال بعض العادات غير الشركسية إلى حياتهم (الزواج من غير الشركس)، ولم يكن لهم أية مشاكل دينية أو إثنية، وقد سُمح لهم بتشكيل جمعيات ترعى شؤونهم، ومارسوا أنشطتهم الفولكلورية، كما حصلوا على الجنسية السورية وتمتعوا بكامل حقوق المواطنة، وقد وصلوا إلى البرلمان والوزارة، وأصبحوا قادة في الجيش والدولة، نذكر هنا أشهرهم على الإطلاق: أحمد نامي باشا شابسوغ، ثاني رئيس لجمهورية سورية عام 1925.
يُقدس الشركس (الأديغة) ثلاثة أمور: الأخلاق والقوة والوطن، ويعتبرون أنّ الإنسان إن فقدَ أخلاقه فقَدَ قوته، وإن فقدَ قوته خسر وطنه، وانطلاقاً من هذا المبدأ فقد شاركوا في الثورة السورية بقوة، وهنا لابد من ذكر الكلمة التي ألقاها (فوزي تسي أبزاخ )، يوم التقت الحشود الشركسيه القادمة من الجولان، بالرئيس شكري القوتلي، والتي قال فيها: (اغتصب الفرنسيون بالقوة وطننا الحبيب سورية، والأن نحن على كامل الاستعداد لأن نُضحي بحياتنا من أجل سورية الحبيبة، المستقلة، الحرة والكريمة)، وكان أن تطوع، يومذاك 150 شاب شركسي من بين الجماهير المحتشدة لتشكيل أول نواة للجيش السوري المستقل)، رافضين كل إغراءات الفرنسيين، ومحاولاتهم لتحويل شراكسة سوريا إلى طابور خامس.
ومن مواقفهم الوطنية نذكر أيضاً، قيام أهالي قرية مرج السلطان الشركسية في غوطة دمشق بإيواء (شكري القوتلي) أول رئيس جمهورية لسورية المستقلة، لمدة ثلاثة أشهر، عن أعين السلطات الفرنسية التي كانت قد حكمت عليه بالإعدام (بحسب الجمعية الخيرية الشركسية).
كذلك ظهر حِسُّهم الوطني العالي، يوم صوَّت شراكسة لواء اسكندرون، لصالح بقاء اللواء في حدود الوطن السوري.
طالتهم يد المجموعات الإرهابية كلها، خلال حربها على سورية، فتعرضوا للتهجير القسري، فقد ترك أهالي بلدات (البريقة) و(بير عجم) في الجولان، و(خناصر) الحلبية، بيوتهم وأراضيهم مثلهم في ذلك مثل أهالي قرية مرج السلطان-الغوطة الشرقية، فما كان من المشاركين في المؤتمر التاسع للاتحاد الشركسي الدولي، إلا توجيه نداء إلى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، يحذرون من خطورة التدخل في الشأن السوري، ويناشدونه تقديم الحماية للشركس السوريين.
مواطنون أمميون
الشركسي السوري إنسان حضاري، يُبدع ويعطي الأرض التي يسكنها، يحترم مكونات المجتمع حيث حلّ ورحل.. لذلك يستحق لقب مواطن أممي.