مزيفـون بلا حـدود!

د. صياح فرحان عزام:
تلعب وسائل الإعلام دوراً في التأثير على الوعي الجمعي العالمي لأنها تدار من غرفة قيادة واحدة، وذلك من خلال أسلوب يجعل القارئ أو السامع لا يرى إلا ما تريده هذه الوسائل، وهو أسلوب فعال في قيادة الرأي العام، ويتحقق ذلك بوضع خيارات وهيمنة تقلل تفكير الطرف الآخر، بينما توهمه في الوقت نفسه أنها تترك له حرية الاختيار، وهي غالباً ما تضع الحدث في إطار يدعم المسألة أو الفكرة التي تريدها.
والجدير بالذكر أن هذا الأسلوب هو المتبع في نظرية غوبلز، وزير الدعاية الألماني في عهد هتلر، وهي طريقة تهدف إلى السيطرة على العقول من خلال نظرية التأطير، القائمة على التالي: يعمد الكاتب أو الصحفي إلى إبراز جوانب من القصة أو الحدث، والتركيز عليها، وإغفال أجزاء أخرى أو تجاهلها أو طمسها، بما يتوافق مع أهوائه وميوله، على غرار ما جرى في الحرب على العراق أثناء حادثة معركة المطار، فقد قامت وسائل الإعلام بتعبئة الطرفين على أنها المعركة الحاسمة، فأصبح الجيش العراقي وجميع الناس يترقبون هذه المعركة.. وعندما سقط المطار شعر الجميع أن العراق كله قد سقط، بالرغم من أن تلك المعركة لم تكن الحاسمة آنذاك، ولم يسقط إلا المطار، وكان المقصود إحباط الروح المعنوية للعراقيين جيشاً وشعباً، وهذا ما حصل مع الأسف.
الآن تلعب وسائل الإعلام اللعبة نفسها، إذ تجعل الإنسان لا يرى إلا ما تريده هي، ويعتبر تزييف الحقائق أهم ما في دروس ونظرية غوبلز، التي أتقنتها الصهيونية العالمية ووسائل الإعلام الغربية المؤيدة لها، واعتمدتها تحت شعار اكذب واكذب حتى يصدقك الناس، وإن لم يصدقك الناس.. سيبقى شيء منها عالقاً في الأذهان.. وهذا يعني أنه رغم أن النازية اندثرت إلا أن تعاليمها بقيت وتطورت.
إذاً، يستمر التزييف والتلاعب بالكلمات والأحداث حتى تضيع الحقيقة أمام أعين الناس وسط أصوات ممولة بأحدث التقنيات لنشر التضليل، وهذا ما يجري للإعلام الغربي اليوم الذي كان يسخر من غوبلز ونظريته، فهو يسكت ولا يناقش سطوة الزيف وسيطرته عليه.
لقد تعلمنا في كتب الإعلام أن وضع الحقيقة أمام الناس واجب مهني وأخلاقي وإعلامي من دون إغفال، وبلغة ولهجة موضوعية ومحايدة، ولكن ما تعلمناه من هذه الدروس عن الإعلام المحايد يبقى حبيس الكتب والأدراج، وبالتالي يكتشف طالب الإعلام وخريجه أن الإعلام في حقل الممارسة غيره في حقل الدراسة.
في هذه الأيام تضيع الحقيقة، ويجري شراء الضمائر لتردد مع المزيفين الأكاذيب نفسها، وهكذا تعمل آلة الإعلام العالمي على نقل المتلقي من كونه إنساناً ذا عقل يفكر ويحلل إلى (ببغاء أعمى) يردد ما يسمعه، والمثال الأوضح أمامنا اليوم، هو عملية طوفان الأٌقصى التي استغلتها الدعاية الصهيونية والغربية منذ الساعات الأولى لربطها بالإرهاب وتزييف الحقيقة، بحيث جعلت معظم وسائل الإعلام العالمية تتبنى الروايات المرعبة والمزيفة عن قطع رؤوس الأطفال، واغتصاب النساء، واستهداف المدنيين، وغير ذلك من الادعاءات المماثلة الزائفة والتي تبين لاحقاً أنها مصنعة وكاذبة، بدليل الإخفاق في تقديم أدلة عليها، الأمر الذي اضطر بعض وسائل الإعلام التي رددتها إلى حذف التقارير التي سبق أن روجت لها أو تعديلها.
المشكلة أن صوت الحقيقة يبقى دائماً منخفضاً أمام الضوضاء التي يثيرها المزيفون، وما كانت مأساة غزة إلا حكاية حقيقية تسعى إلى طمسها أكاذيبُ طغت على وسائل الإعلام العالمية، وامتدت لتعمي حتى المنظمات الحقوقية عن أم مبادئها الإنسانية.. وأمام كل محاولة لوضع الحدود لهذا التزييف المبرمج، تمارس على أصحاب هذه المحاولات الضغوط الكبيرة إلى جانب الابتزاز، لكن الشعوب الصامدة تحت نير الظلم والاستعمار لا تسكت، بل تستمر في العمل على رفع صوتها، ولو بدا ضعيفاً في بعض الأحيان.
أخيراً، التاريخ يقول: إن مؤسس التزييف غوبلز قد فشل في نهاية الأمر، فهل يعقل أن ينجح التابعون له ومقلدوه؟ ورغم أنهم قد حققوا نجاحاً إعلامياً لكنهم سقطوا في امتحان الأخلاق والإنسانية، وكل الصور التي نجحوا فيها أي في تزييفها سيزول عنها هذا الزيف يوماً ما.. تماماً كما زال هتلر، فالنظرية التي انتهت بالفشل تاريخياً لن تنجح الآن ولا في المستقبل، ذلك أن الكذب حبله قصير مهما سخر له من أموال.. قديماً قيل: (الحرب تبدأ بالكلمات وتستمر بالطلقات.. وتنتهي بالكلمات)، وبين الكلمة والرصاصة تشكل الدعاية الكاذبة أداة فاعلة في تضليل الرأي العام، وهذا ما يفسر لنا أن الباحثين عن الحقيقة من المراسلين قد طردوا من الساحات وبقي المراسلون المزيفون.

العدد 1120 - 21/8/2024