ما أقلّ الهواء! من صرخات أبناء الرغيف

عباس حيروقة:

لم أكن في يوم من الأيام سوداوياً أو متشائماً، فرغم كل الخراب والدمار وهول الحروب ووحشة الدروب وكل الجنازات والتوابيت، ورغم المقابر المكتظة بساكنيها والتي ألفنا دروبها، ورغم المشافي وجنون الأمراض وانتشار الأوبئة.. ورغم أصوات المعارك ودوي الانفجارات المزلزلة.. رغم فظائع الجرائم ووحشيتها المرتكبة بحق أبناء سوريتنا النور، ورغم نجاحهم إلى حين في مناطق هنا وهناك في تعطيل عجلة الحياة والعودة بها إلى ألف ألف عام.. ورغم الشتاءات القارسة المكدسة بالثلج وبالبرد وبالأطفال العراة الحفاة.. ورغم غير صيف قائظ خلّف عشرات الحرائق التي طالت مواسم ما تبقّى من خير وجمال، ورغم ماحدث في حلب ومحاولة تقسيمها إلى غربية وشرقية، وما لحق بها وبقلعتها من تخريب وتشوه وموات، وأيضاً ما حدث في دمشق وريفها.. وما حدث في حمص وأحيائها.. في درعا وسهولها.. في الرقة وفراتها.. في اللاذقية وجبالها.. في.. في.. ورغم مواكب الشهداء التي جابت كل شارع في المدن والبلدات والقرى وسط بكاء وعويل الأمهات وغصات ونشيج الآباء والأبناء.. الشهداء الذين ملأت صورهم جدران المدارس والمؤسسات وأعمدة الكهرباء مازالوا يبتسمون وهم يراقبون أطفالهم في طريقهم إلى مدرسة هنا وروضة هناك.. رغم كل جلسات مجلس الأمن ومن دار في فلكه، والقرارات والقوانين التي نادت بالحصار وبالعقوبات وسط تهليل إخوة لنا وأبناء عمومة.. و…الخ، رغم.. ورغم… إلا أنني كنت أؤمن وأدعو بكل ما أستطيع للتحلي بالصبر وبالإيمان بوطننا سورية وأن سيرورة التاريخ وصيرورته تؤكد أن الحرب مهما طالت أو امتدت لا بد من أن تنتهي، ولا بد من أن ينتصر أبناء الأرض وأصحابها الذين دافعوا عنها وضحوا من أجلها، وقدموا في سبيلها كل غالٍ ونفيس.. كنت دائماً أنشر ثقافة التفاؤل والمحبة والخير والجمال، ما دام ثمة تلاميذ يتجهون كل صباح إلى مدرستهم، وما دام ثمة عمال ومعامل وفلاحون وحقول قمح وأنهار.. ورغم.. ولكنني بقيت وبقيت أنا وكل من يشابهني في جنون المحبة والابداع والانتماء للحق وللتراب وللماء.. للإنسان.. لإنسانيته وأحقيته في الحياة الكريمة التي خصه الله بها دون سواه من مخلوقاته ندعو إلى تعزيز المحبة والأصالة والجمال. ولكن بعد كل هذا الترقب والتأمل والانتظار بعد كل هذا وذاك، ما الذي حصل ويحصل؟ وكيف؟ ولماذا؟! أهكذا يكافأ السوري الذي صمد وضحى!؟ أهكذا يُحارب في رغيفه.. لقمة عيشه.. كوب مائه.. زجاجة دوائه ؟؟!! أهكذا يكافأ السوري بقهره وإذلاله في كل دروب الحياة، يكافأ بفوضى منظمة من قبل التجّار والفجّار معاً! وما هذا الانفلات والانفلاش في الأسواق والأسعار وسط فقدان أو نهب ألف باء مستلزمات الحياة، ما هو إلا الواضح على ضياع البوصلة.. كل يوم ارتفاع أسعار.. فقدان مواد أو بالأصح نهبها وتخزينها في مخازن ومستودعات أعداء الرغيف لمعاودة طرحها بأسعار جنونية.. والمحزن لا بل المرعب حدث ويحدث هذا وسط صمت (بكل تهذيب أقولها) وسط صمت أصحاب القرار! وأكبر مثال هو ذاك الارتفاع المتكرر لأسعار الدواء.. وآتي على ذكر الدواء لأذكّر بأن الدواء ليس من الكماليات ومن يبتاعها ليس للرفاهية.. هو الدواء يا سادة وليس الموز والكاجو والمشروبات الروحية.. بمعنى أن من يُقدم على شراء الدواء فقط ليحافظ على حياته وحسب.. هذا الارتفاع المتكرر بأسعار الدواء خلال أشهر قليلة جداً إن لم نقل خلال أسابيع قليلة جداً لم يحرك أي وازع أخلاقي وطني وإنساني وديني عند أية جهة معنية، ودفعها للوقوف على منبر إعلامي وتوضيح سبب هذا الغلاء أو غيره من إجراءات حولت المواطن السوري إلى متسول يلملم لقمته من هنا وهناك بقلب منكسر وعينين يأكلهما جمر العوز.

غلاء وجنون وارتفاعات متكررة في الأسعار، والرواتب هي هي.. رواتب لا تكفي أقل العائلات عدداً بضعة أيام، ألم يخطر في بال أصحاب القرار كيف لهذه العوائل السورية تدبر أمرها؟؟ وماذا ينتظرنا أيضاً!؟ من المستفيد من كل هذا وذاك الذي حدث ويحدث؟! ومن يصدّق أن السبب الأساس في معاناتنا كسوريين هو قانون قيصر والدول المعادية؟! ما من شك أن قيصر منا وفينا.. وأننا نعلّق ما يحلو لنا على مشجب قيصر وغيره.. وما أكثر الأدلة على ذلك (الألواح الزجاجية الخاصة بالطاقة البديلة والتي ملأت البلاد _ أجهزة آي فون التي قررت الشركة المنتجة أن تطرحها أول ما تطرحها في دمشق)! كل ما حدث ومازال هو زلزال مهيب ضرب كل منظوماتنا الوطنية والأخلاقية والإنسانية جمعاء. سقطت كل النظم والقرارات أمام جوع وبرد أطفال سوريتنا وأي أطفال.. هم فقط أبناء الفقراء البسطاء من شهداء وجرحى وعمال وفلاحين آمنوا بقدسية حياة كريمة في وطن كريم، ولكن ثمة من عمل ويعمل على تسطيح وتهميش مفاهيم وقيم متجذرة في تاريخنا الإنساني (الوطن _ المواطنة _ الحرية _ الانتماء _ القانون _ التوزيع العادل للثروات _ ..الخ ) ولم يعد يخفى على أحد أن أعداء الرغيف وسارقيه هم موجودون في أفخم الفنادق والمقاصف والملاهي.. وبعضهم سرق ما سرق وغادر وأبناء جلدته القبيحة لينعم بمال الفقراء والشهداء خارج البلاد.. نحن أشد فتكاً ببعضنا من قيصر ومن دار في فلكه .. وماذا بعد ونحن مقبلون على شتاء قارس لا نملك من مقومات مقاومته أي شيء. لا مازوت.. لا حطب.. لا كهرباء.. لا غاز.. لا شيء.. لا شيء! ما الذي ينتظرنا؟! هل من جهة ما تتفضل وتشرح لنا ما يحدث!؟ كل الأماكن مكتظة حد التخمة.. الفنادق.. الشاليهات.. المقاصف.. الملاهي.. المزارع والفيلات.. المطارات.. محطات الركاب.. المستشفيات.. المقابر.. ما الذي ينتظرنا؟! ما أكثر الأمثلة التي تدلل على أننا نحن (قيصر)! بل أشد فتكاً من ألف ألف قيصر.

ما أحزننا!

وما أقل الهواء.. الهواء النظيف النظيف!

العدد 1102 - 03/4/2024