جريمة جماعية.. كلّنا متّهَمون

حسين خليفة:

في فيلم (عفواً أيها القانون) وضعت المخرجة إيناس الدغيدي يدها على نقطة حسّاسة ومسكوت عنها إلى حدٍّ كبير في تلك الفترة (ثمانينيات القرن الفائت)، وهي حالة المرأة التي تجد زوجها متلبساً في ممارسة جنسية مع امرأة أخرى في غرفة نومها، تصبح المرأة أسيرة لمشاعر الغضب والغدر والخيانة من قبل زوجها، فتمتد يدها إلى مسدس وتقتل الزوج.

الأمر كله يجري كأنه منام، هي لم تُخطّط للقتل، ولم تفكّر به، لكنه جاء استجابة لنوازع نفسية وروحية.

في المحكمة تبدأ محاكمة القانون الذي يبيح للزوج قتل زوجته (الخائنة) دون قصاص، ثم يقيم الحد على امرأة تمارس الفعل نفسه في الظروف نفسها.

في بلدنا، بصدور القانون رقم 2 لعام 2020 المتضمن إلغاء المادة 548 من قانون العقوبات، والمتضمنة منح العذر المُخفّف لما يُسمّى بـ(جرائم الشرف)، أُسدِل الستار على غطاء قانوني يحمي القتلة بداعي جريمة الشرف.

صدر القانون بتاريخ 17/3/2020، لكن بقي العرف السائد بأن يقوم ذكر فحل من العائلة بقتل امرأة تخصّه بصلة نسب لمجرّد اتهامها بعلاقة مع رجل، قد لا تتعدى الإعجاب مثلا!! فيما هذا الفحل والفحول الآخرون المصفقون لبطولته (يعملون السبعة وذمّتها) دون أن يُسألوا عمّا فعلوه، بل ويتباهون بـ(فتوحاتهم) و(غزواتهم) علناً متلقين آيات الإعجاب والتهليل والتبريك من المحيط، ومن ضمنه نساء أيضاً، لأن ذكر العائلة أصبح رجلاً يغوي نساء غريبات، فيما هؤلاء النساء أنفسهن ما إن يبتسمن لغريب حتى تنهال عليهن سكاكين هذا الفحل نفسه.

 

ما هي جريمة الشرف؟

أن يقوم ذكر من العائلة بقتل أنثى من أقاربه عن سابق إصرار وترصد بسبب مجرد شك أحياناً بارتباط عاطفي أو علاقة أو زواج دون موافقة العائلة، ثم يقضي شهوراً قليلة في السجن يخرج بعدها طاووساً منفوخ الريش.

هكذا كان الأمر قبل إلغاء المادة المشؤومة من القانون، وقد تأخّرت عقوداً رغم كل محاولات المنظمات الانسانية والنسائية وبعض القوى السياسية المنفتحة على الحياة، لكنها جاءت أخيراً.

من أين جاء هذا الاستسهال لإزهاق أرواح بريئة؟!

أدّعي أن عوامل عدّة اجتمعت لتُكرّس هذه النظرة المتسامحة تجاه جرائم مكتملة الأركان، أولها الأعراف الاجتماعية في مجتمع ذكوري تكوّن عبر تاريخ طويل على فكرة أنّ الأنثى ملك للذكر جسداً وروحاً، وهو يحدّد لها ما يجوز لها عمله وما لا يجوز، وهو يقوم بتقويم سلوكها حسب ما يراه وبالطريقة التي يراها، وأيّ خلل في سلوكها ـ حسب رؤية المجتمع نفسه ـ سوف يرتد عليه وعلى رجال العائلة والعشيرة ذلاً وعاراً لا يمحوه إلاّ الدم، دم الضحية طبعاً.

وإلاّ من أين جاء مفهوم السبايا الذي كان يقوم على خطف نساء الأعداء من ضمن ما يخطف من غنائم، والتصرّف بهن كسرايا وجاريات وتوزيعهن على القادة والمقاتلين، وقد بقي هذا التقليد سائداً ومشرعناً بعد الإسلام بنصوص مقدسة لا تقبل التأويل؟!

ثم جاءت التعاليم الدينية المُتشدّدة ثانياً، وكرّست النظرة ذاتها إلى العلاقات خارج مؤسسة الزواج، ووجدت بيئة خصبة لها طبعاً في الأعراف السائدة.

من هنا تأتي قوة الأفكار البالية التي تسمح بقتل المرأة (الخاطئة) بل تمجّده وتعتبره عملاً مُشرّفاً يرفع رأس فاعله.

من هنا أيضاً تأتي صعوبة التخلّص من هذا الإرث رغم إلغائه قانوناً.

الأمر يحتاج إلى تضافر النشاط المُستمر للمنظمات النسوية والاجتماعية والسياسية لفضح الجرائم ومبرراتها، وتعريتها، مع حملات توعية مستمرة يشارك فيها قادة المجتمع الأهلي المتنورين من زعماء عشائر ورجال دين ووجهاء.

نعم، هناك زعماء عشائر ورجال دين ووجهاء يتعاملون بإيجابية مع فكرة تجريم وتحريم (جرائم الشرف)، لكن لا بدّ من الاعتراف بصعوبة إيجاد من يتجرّأ منهم على الجهر بآرائهم والدعوة إليها، لما قد تسبّب لهم من انفضاض الناس من حولهم وفقدانهم لمكانتهم الاجتماعية او الدينية.

من رجال الدين السوريين الذين تجرؤوا على إعلان مواقف منفتحة مستندين إلى روح الشريعة وجوهرها الإنساني الدكتور محمد حبش الباحث والداعية الإسلامي المعروف.

يعرِّف د. حبش (جرائم الشرف) في دراسة له بعنوان (جرائم الشرف بين الشريعة والقانون) بأنها: (الجرائم الخاصة بالانتقام من الأنثى أو الرجل إذا اشتبه في مقارفتهما الفاحشة، فهو ـ يقصد مصطلح جرائم الشرف ـ أمر مستهجن وغير مقبول لا لغوياً ولا شرعياً، وهو استخدام مستحدث).

يضيف الدكتور حبش: (إن الإسلام جاء شديداً في تحريم الزنا واعتباره جريمة أخلاقية واجتماعية، وخاصة عندما يتضمن خيانة زوجية، وذلك حرصاً من الشريعة الغرّاء على استقرار الأسرة).

والعقوبات الشرعية المقررة على جريمة الزنا ليست شأناً فردياً، يطبّقه من شاء كيف ومتى ما شاء، كما يقول حبش، مضيفاً إن هذا شأن الحكومة الشرعية التي من واجبها تطبيق القانون، ولا يتم ذلك إلاّ بعد أن تكون الأمة قد اختارت تطبيق هذا الحكم ووافقت عليه عبر مؤسساتها الديمقراطية، وللحدود شروط كثيرة ودقيقة لا بدّ منها حتى يتحقّق الحكم الشرعي.

إن وجود مفكرين إسلاميين متنورين وقادة رأي وزعامات عشائرية متنورين يمكن أن يشكّل رافعة حقيقية لتخليص المجتمع من هذه الجريمة الجماعية، التي يتحمل الجميع وزرها، وآن الأوان لجعلها ذكرى سيئة ونقطة سوداء من تاريخ غابر.

العدد 1104 - 24/4/2024