حراك شعبي… لقانون أحوال شخصية علماني موحد
د. أحمد ديركي:
في 17 تشرين الأول من عام 2019 انطلق الحراك الشعبي في بيروت. إنه حراك شعبي لا كما يود أن يوصفه البعض ويشطح إلى حد إطلاق صفة (ثورة) على ما حدث، ويعود هذا الشطح في التوصيف إلى جهل بقراءة الواقع ودقة في استخدام المصطلحات، وفي أحيان اخرى تكون الأمور أعمق مما تبدو عليه، في سبيل استغلال الحدث لأهداف سياسية لا تتماشى مع مطالب الشعب.
حراك شعبي استطاع أن يهز أركان السلطة السياسية – الطائفية في لبنان، سلطة تجيد التعامل مع الحركات الشعبية لأنها تمرست على عمل كهذا، فمع كل حراك شعبي تبتدع أسلوباً جديداً لتجعل من هذا الحراك حراكاً لا يصل إلى غايته، ولئلا يتحول من حراك إلى فعل سياسي بقيادة قوى ثورية حقيقية لا مساومة. وقد يكون من أشنع التوصيفات القاتلة للحراك الشعبي وجود يسار مساوم منطو تحت لوائه، ليتحول اليسار الحقيقي من خلال هذه الفعل، المساومة، من يسار ثوري إلى يسار خائن لقضيته التي يحملها، ألا وهي قضية الشعب.
استطاعت السلطة السياسية – الطائفية إخماد الحراك، ولكنها من خلال لعبة قديمة – جديدة اعتادت أن تلعبها مع كل حراك شعبي، ولكن هذه المرة وان نجحت في لعبتها هذه إلا أنها ولدت بؤرة قابلة للانفجار قد تحجّم كل من هم في السلطة.
لقد أصبح قادة الطوائف السياسيين ضمن الهيمنة الكاملة للاعبين دوليين أكبر منهم، وكشفت عن قادة طائفيين سياسيين جدد يطرحون أنفسهم لاعبين أساسيين على الساحة اللبنانية. ويبدو هذا جلياً من خلال الأحداث الأخيرة التي حصلت في منطقة دوار الطيونة. ويظهر الأمر جلياً في أحاديث الزعماء السياسيين – الطائفيين والكشف عن (زنودهم) والتهديد بعدد مقاتليهم وعتادهم العسكري الجاهز لخوض المعركة، وكأننا نشاهد صراع الديوك. فكل صاحب ديك يتحدث عن مهارات مقاتليه ليرتفع ثمن الرهان.
للخروج من صراع الديوك الطائفية يجب على الحراك الشعبي أن يستعيد قوته، وعلى القوى الثورية التغييرية، واليسارية بعامة، أن تعاود حمل مطالب الشعب والعودة إلى الساحات لفرض ما تريد. وهنا يمكن القول قد تكون مسألة تحديد المطالب الشعبية والعمل على تحقيقها من خلال عمل تنظيمي محدد أفضل بكثير من العمل تحت شعارات رنانة قد تؤدي إلى فشل الحراك الثوري.
قد تكون مسالة إلغاء قوانين الأحوال الشخصية الطائفية أحد هذه المطالب، لأنها تجمع تحت رايتها كل من هم لا طائفيون، وبهذا يمكن خلق حراك شعبي لا طائفي ليكون قوة سياسية ضاغطة على السلطة السياسية.
يوجد ثلاث بنى رئيسية لكل نظام سياسي، بمعنى دولة بالمفهوم الحديث للمصطلح، يجب مقاربتها لمعرفة واقع هذا النظام السياسي أو ذاك وهي البنية السياسية، والاجتماعية والاقتصادية. ولا يتوقف الأمر عند مقاربة كل بنية بذاتها، بل لاستكمال الصورة لا بد من معرفة العناصر المكونة لكل بنية، إضافة إلى طبيعة العلاقات الناظمة ما بين كل بنية واخرى. فماذا عن لبنان؟
النظام السياسي في لبنان طائفي. لا خلاف حول هذا التوصيف المبني على وقائع مادية من دستور البلاد وصولاً إلى أدق التفاصيل الأخرى. اقتصاده ليبرالي. نعم هذا ما ينص عليه الدستور، ولكنه ليس ليبرالياً بالمعنى الصحيح للكلمة، لأسباب متعدة، بل يمكن توصيفه على إنه اقتصاد يدخل ضمن الاقتصاد المعولم بمزايا تتوافق مع الواقع اللبناني، وهنا أيضاً لا خلاف على اقتصاده فهو اقتصاد ليبرالي من الوجهة العالمية بمزايا ريعية – خدماتية تتوافق مع الواقع اللبناني. مجتمعه طائفي. هنا تختلف التوصيفات والقراءات، فالبعض يقول نعم، والبعض الآخر يقول لا، وثالث يقول إنه خليط بين الطائفي والعلماني. وهنا يمكن القول إنه مجتمع ذو غالبية طائفية، ولا يعني هذا أن (الطائفية) مكون طبيعي من مكونات المجتمع اللبناني.
انطلاقاً من أنه لا خلاف حول توصيف نظامه السياسي والاقتصادي، وخلاف حول التوصيف الاجتماعي تظهر لنا علاقة غير سوية بين السياسي والاجتماعي تولد حال دائمة من النزاع، سواء كان هذا النزاع ظاهراً أو مستتراً.
من القواعد العلمية المتعارف عليها أن المجتمع لا يعرف السكون، وإن بدا ساكناً. في المقابل يعمل النظام السياسي على تثبيت سكون المجتمع، كي يحافظ النظام القائم على وجوده. ومن إحدى أدوات النظام السياسي لتثبيت السكون الأداة الإيديولوجية التي يحاول تجذيرها في المجتمع. فالنظام السياسي الطائفي في لبنان، من ضمن الأدوات الإيديولوجية الأخرى، يستخدم الإيديولوجية الطائفية لتثبيتها في المجتمع لتبدو وكأن الطائفية من طبيعة المجتمع اللبناني. ويعمل على تكريسها من خلال (أجهزة) الدولة، من التعليم، والقوانين، والمؤسسات… ومن أكثر هذه الأجهزة فعالية (الجهاز) القانوني، من الدستور إلى بقية القوانين الأخرى المتعلقة بهذا الأمر وصولاً إلى قانون الأحوال الشخصية.
تعمل قوانين الأحوال الشخصية الطائفية في لبنان على تكريس الانقسام في المجتمع وتحويله من مجتمع يعيش في كنف دولة إلى (عشائر) طائفية تعيش في كنف (دول) ضمن دولة. فقوانين الأحوال الشخصية الطائفية تمنح كل (عشيرة) طائفية قوانينها الخاصة بكل ما يتعلق بالأحوال الشخصية، من الزواج إلى الطلاق إلى الإرث… فتفقد الدولة مسألة جوهرية من مكونات مفهومها ألا وهو خضوع الجميع لقانونها، فكيف لجميع (مواطنيها) أن يخضعوا لقانون الدولة ولكل طائفة قانونها ومحاكمها الشرعية؟ واقع يشطب مفهوم (المساواة) أمام القانون، ما يؤدي إلى إلغاء مفهوم مواطن، ما يؤدي إلى إلغاء مفهوم وطن ما دام لا وجود لمواطن. وإن خرق بعض الأفراد هذه القوانين من خلال زواج ذكر من أنثى من طائفتين مختلفتين ضمن دين واحد تتعقد أمورهم القانونية إلى حد يرغمان فيه على الخضوع لقانون إحدى الطائفتين، فكيف إن كانا من دينين مختلفين؟ فتكرس هذه القوانين الطائفية الانقسام الطائفي في المجتمع ليقوم النظام السياسي الطائفي على هذه الدعائم الانقسامية في المجتمع.
لدكّ هذا النظام السياسي الطائفي وبناء بديله النظام السياسي الديمقراطي العلماني، علينا بداية أن نوجه أسهمنا إلى ركائزه الأساسية، ومن هذه الركائز قوانين الأحوال الشخصية الطائفية التي يجب أن يحل محلها قانون مدني موحد للأحوال الشخصية.