ما زالت ريح الخريف تعصف بنا

إيناس ونوس:

قد يكون اختيار الحادي والعشرين من أيلول من كلِّ عامٍ يوماً عالمياً للسَّلام في مختلف بقاع الأرض تزامناً مع اقتراب الانقلاب الخريفي أمراً مدروساً من قبل الذين اختاروا هذا التَّاريخ، لما يعتمل في النَّفس البشرية من اختلاجاتٍ وتأزُّماتٍ قبل الوصول إلى هذه المرحلة الجديرة بالاهتمام والسَّعي لتحقيقها سواء على الصَّعيد الشَّخصي الخاصّ أو على الصَّعيد العام، فكلُّ إنسانٍ يعيش تناقضاتٍ وأزماتٍ وصراعاتٍ شتَّى قبل أن يصل إلى مرحلة السَّلام الدَّاخلي التي ينشدها، وكذلك الشُّعوب والدُّول تعيش الحالَ ذاتَه.

غير أنَّ هذه المرحلة تتطلَّب بذل المزيد من الجهد والعناء والكثير الكثير من الوعي والنُّضج حتَّى تكتمل وتغدو واقعاً معيشاً، وهذا ما يبرِّر انعدام التَّوازن في حال غيابها، أو تأخُّرها، فهي ليست شعاراً يمكن لنا المناداة به متى شئنا، وحمله على أساس أنَّه سهل التَّحقيق، بل هي ثمار جهودٍ حثيثةٍ ناتجةٍ عن قناعةٍ تامَّةٍ بضرورة عيشها والتَّمتُّع بها.

لكنْ.. أين لإنسان اليوم أن يحظى بالقليل من السَّلام والطُّمأنينة الدَّاخليين، اللذين هما اللَّبنة الأولى في تحقيق السَّلام والطُّمأنينة العامَّيْن، وهو يعيش صراعاتٍ لم يعشها أسلافه من قبل؟؟

شعوبٌ لم يعد همُّها إلَّا البقاء على قيد الحياة، تتذوَّق طعم القهر والذُّلِّ والموت في كلِّ ساعة، سواء على يد الغريب الرَّاغب بالانقضاض عليها وعلى مقدَّراتها بغية نموِّه وازدهاره، ومن ثمَّ انتصاره وفرحه بتفوُّقه عليها، أو على يد أبنائها أنفسِهِم الطَّامعين بالاكتناز والسَّرقة والقتل والاغتيال أكثر فأكثر تعزيزاً لأناهم الفرديَّة الموغلة في الأنانية.

فصراع البقاء بات على أشدِّه، والأزمات المتلاحقة التي في بعض الأحيان تأتي مجتمعةً تجعل إنسان اليوم أبعد ما يكون عن ذاته وعن طبيعته التي فطرته عليها الطَّبيعة، فقد أمست الحروب بأسلحتها المختلفة والمتنوِّعة (الجرثومية، الاقتصادية، النَّفسية، البيولوجية، المعيية، القهر والحرمان من أبسط الحقوق …إلخ) هي الحاكم والآمر النَّاهي في عالمنا اليوم، مع اختلاف درجات الألم بين دولةٍ وأخرى وبين شعبٍ وآخر، غير أنَّ ما يحدث في عالمنا أمرٌ مرعبٌ حقيقةً، ويلغي كلَّ بصيص أملٍ في أن يتحقَّق السَّلام المنشود على مرِّ البشرية جمعاء، ما يدعو للسُّخرية في بعض الأحيان من التَّذكير بمثل هذه المناسبات، أو من الدَّعوة لها، فالواقع شيءٌ آخرُ مختلفٌ تماماً، كما هو الخريف، مليءٌ بشتَّى التَّناقضات التي لم يعد يحتملها عقلُ بشريٍّ، وفي حين كنَّا نلمح بعضاً من الأمل والتَّفاؤل في عيون الأطفال ما يدفعنا لأن نتمسَّك أكثر بقوَّة الحلم في داخلنا، بات ذاك البريق أكثر ابتعاداً عن عيون أبنائنا، فقد تفتَّحت تلك العيون على شتَّى أشكال الموت والقهر والذُّلِّ، فأين نحن من السَّلام والأمان والطُّمأنينة؟

إلى أين يسير بنا الحاضر الملوَّث؟ وكيف سيكون الغد؟

وهل بات أدنى حقٍّ لنا ترفاً يجب أن ندفع ثمنه باهظاً؟

كنَّا سابقاً نتغنَّى بأنَّنا سنبقى نحلم، فللحلم بقيَّةٌ، وفيه تحقيقٌ للمبتغى، أمَّا اليوم، فحتَّى الأحلام قد لاذت بالهرب منَّا!

ألا يمكن أن تعصف رياح الخريف فتقتلع كلَّ تلك الأيدي المساهمة في وأد الأمل والحلم من جذورها، تاركةً المجال لأمطار الشِّتاء وشمس الرَّبيع أن تساهم في نموِّ جذورَ جديدةً خضراءَ تحبُّ الحياة وتريد لها أن تكون؟؟

كلُّنا اليوم أملٌ بأن تفعل رياح الخريف فعلتها، لعلَّ بعضاً من الهدوء والسَّكينة يدخلان هذه الأرواح الثَّكلى، التَّوَّاقة للحياة.

يكفينا خوفاً من يومنا ومن غدنا.. ومن تلك الرِّيح ألَّا تعصف إلَّا بآمالنا وأرواحنا.

فعن أيِّ سلامٍ تريدون الحديث؟!

العدد 1102 - 03/4/2024