ميم الملل

حسين خليفة:

ثلاثي الميمات الذي يتندّر به السوريون كل مطلع خريف، ميمات الهم والقلق، المدارس والمونة والمازوت، بما تعنيه من أعباء معيشية قاسية تفرض نفسها على المواطن السوري دفعة واحدة قبل حلول شتاء يُضيّق على الفقير خياراته، سواء من جهة غذاء أسرته الميسر نسبياً في الصيف الذي تتوفر فيه الخضار المتوفرة والفواكه أو بعض أنواعها التي كان يتجرأ على (معاقرتها)، أو من جهة عدم الحاجة إلى مازوت التدفئة الذي كان تأمينه على مر عقود همّاً ثقيلاً، فأصبح الآن أقرب إلى الاستحالة.

هذا الثلاثي المرعب تحول مع تكراره إلى ميم واحدة، ميم الملل.

المدارس هي فرحة للأسرة بدخول أولادها مرحلة جديدة في دراستهم وتقدمهم في مراتب العلم والمعرفة، لكنها في الوقت نفسه رعبٌ مقيم لها، ونزيف لدخلها الذي لا يغطي تقريباً تكاليف معيشتها، فتأتي مصاريف المدارس التي لا مفرّ منها، وهي مرهقة لميزانية الأسرة خصوصاً إذا كان فيها أكثر من طالب يحتاج إلى بدلات مدرسية جديدة ودفاتر وكتب وأقلام وألوان وغيرها من قرطاسية وسواها.

الآن أصبح أي حديث في هذا السياق مُملاً مُكرراً ومدعاة للاستنكار، فهي أصبحت من المحفوظات، وها أنا ذا اعتذر لكم عن إيرادها بكل ثقل دمها وغلاظتها، لكنها تدخل باب لا بدّ ممّا ليس منه بد.

العام الدراسي يقترب، وربما مع صدور هذا العدد من (النور) تكون المدارس قد بدأت استعداداتها لاستقبال أبنائنا الذين لم يغادروا الوطن بعد، ولم يغادروا مقاعد الدراسة إلى سوق العمل بعد أن انسحبت نسبة كبيرة من الطلاب إلى سوق العمل مكرهين لتأمين قوت أسرهم بسبب ازدياد تكاليف المعيشة، وعجز الأب عن تأمين مصاريف الأسرة وحده مهما تعملق وارتبط بأكثر من عمل، أو لغياب المعيل قتلاً أو اعتقالاً أو تهجيراً. (بلغت نسبة تسرّب الطلاب أكثر من 25% خلال العام الدراسي 2018/2019 حسب تصريح لمدير التعليم الأساسي في وزارة التربية حينذاك، بينما بلغت نسب التسرّب في مناطق الشمال السوري أكثر من 50% وذلك بسبب غياب سيطرة الدولة وضعف البنية التعليمية في مناطق سيطرة الميليشيات المسلحة في بعض مناطق حلب وإدلب).

ولن نتحدث عن أطفال المخيمات في لبنان وتركيا والأردن وقد حرموا من أبسط حقوقهم وبضمنها حقهم في التعليم، فالحديث عنهم يتطلب محوراً خاصاً أو أكثر، وهي مأساة من مآسي الكارثة الوطنية الكبرى التي نعيش فصولها حتى تاريخه.

الوضع الاقتصادي المزري الذي يعيشه المواطن السوري ودخله أصبح مهزلةً حقيقية، فراتب موظف الفئة الأولى لا يتعدى مئة ألف بعد الزيادة الأخيرة، ولا يكفي لثلاثة أيام فقط، هذا الوضع يرمي بثقله على كل قرار تصدره وزارة التربية وبقية الوزارات أيضاً، فصارت قرارات من المضحك المبكي، لنأخذ نموذجاً التعميم الذي أصدرته وزارة التربية لمديرياتها حول أقساط المدارس الخاصة بخصوص عدم زيادة الأقساط للمؤسسات التعليمية الخاصة التي لم تزد أقساطها للعام الدراسي ٢٠٢١/٢٠٢٠م، ولا يزال قسطها دون خمسمئة ألف ليرة سورية إلاّ وفق الحد الأعلى المرفق، وإعلام وزارة التربية بالقسط المقترح قبل إعلانه لأولياء الأمور لأخذ الموافقة عليه وهو وفق الآتي :
الشريحة الأولى/ القسط ٥٠ ألف ليرة سورية وحتى ١٥٠ ألف ليرة سورية/ نسبة الزيادة ٥٠%.
الشريحة الثانية/ القسط ١٥١ ألف ليرة سورية وحتى قسط ٢٥٠ ألف ليرة سورية/نسبة الزيادة ٣٥%.
الشريحة الثالثة/القسط ٢٥١ ألف ليرة سورية وحتى قسط ٥٠٠ ألف ليرة سورية/ نسبة الزيادة ٢٥%.
النكتة الأكبر في التعميم هي عدم السماح بزيادة الأقساط إطلاقاً لباقي المؤسسات التعليمية التي أقساطها فوق خمسمئة ألف ليرة سورية.

هل تعلم الوزارة الموقرة أن أقل قسط لمدرسة خاصة ولو كانت منزلاً في حي شعبي يتعدى المليون ليرة،، أما عن مدارس أبناء الذوات فحدِّث ولا حرج، الأرقام فلكية فعلاً، فيما الوزارة كمعظم وزاراتنا ومؤسساتنا منفصلة عن الواقع وتصدر قراراتها من خلف المكاتب وكأنهم يعيشون على كوكب آخر. وهو نفسه ما تمارسه السلطات بخصوص رواتب العاملين فهي تتصرف وكأن الأمور ماشية و(البلد ماشي)، بينما عاملوها يقبضون 5 بالمئة ممّا يصرفونه شهرياً وهي خارج التغطية حيال هذا الموضوع الخطير والمدمر للمجتمع.

ما لنا وللمدارس الخاصة، فلا أهلنا استطاعوا أن يسجلونا فيها، ولا نحن حلمنا أن نرسل أولادنا إليها ولو مجرد حلم.

لنعد إلى ما تعانيه مدارسنا الحكومية باختصار.

الحقيقة أنّ الوضع مُزرٍ، بل وميئوس منه، فالاكتظاظ غير معقول في الصفوف، رغم التسرّب الكبير والهجرة وغيرها، ممّا يجعل مهمة أي مدرّس مهما بلغ من الاستقامة والشرف شبه مستحيلة في إيصال المعلومة إلى الطالب، ويجبر الأهالي على اللجوء للدروس الخصوصية والدورات، وحتى في المرحلة الابتدائية (التعليم الأساسي ـ الحلقة الأولى) ترى الأهل يضعون مدرسين لأولادهم ومعظمهم غير مختصين، ليعيدوا تدريسهم وتعليمهم كتابة الوظائف، التدفئة في الصفوف شبه معدومة شتاءً، الفساد يتغلغل داخل الجسم التعليمي والإداري كما كل مفاصل الدولة، الغش في الامتحانات على قدم وساق رغم الظاهرة المسخرة في قطع الإنترنت خلال ساعات الامتحان وهي ظاهرة تنفرد فيها بلادنا بكل فخر.

تتخرج أجيال أميّة من مدارسنا، ونحن لا نبالغ أبداً بهذا الكلام.

تخيل طالب صف تاسع لا يعرف القراءة والكتابة!! وكاتب هذه السطور شاهد على عشرات الحالات من طلاب التاسع لا يعرفون مجرّد قراءة نص، ولا كتابته طبعاً، ولا يحفظون جدول الضرب، ولا يعرفون حلَّ معادلة درجة أولى بمجهول واحد، ولا يعرفون نقل مجهول إلى طرف، وهي من أبجديات التعليم خلال السنوات السابقة، ثم يجتازون امتحاناتهم بنجاح؟!

لا نلقي اللوم على المدرسين، فهم جزء من هذه الجموع المقهورة المحرومة الجائعة، والجائع لا يستطيع أن يؤدي عمله بنجاح، إضافة إلى ضعف البنية التحتية للتعليم.

إنّه فشل منظومة بكاملها، لا قطاع واحد فحسب.

    husenkhalife@hotmail.com

العدد 1104 - 24/4/2024