تقسيم العمل ما بينَ آراء آدم سميث وكارل ماركس

مقدمة:

يعتبر تقسيم العمل شكلاً من أشكال تنظيم إنتاج اليد العاملة لحصول رأس المال على أكبر قدر من السلع بأقل وقت وجهد ممكن.

ارتبطَ ظهور تقسيم العمل ببداية تطور الصناعات الآلية وذلك نتيجةً لزيادة النمو الاقتصادي وتبلور الرؤى الرأسمالية الضخمة تجاه الصناعة وتنظيم إنتاج الدول. ومن بين أشهر رواد علم الاقتصاد والاجتماع الذين تحدثوا عن تقسيم العمل آدم سميث وكارل ماركس. ومن الجميل معرفة أن كلاً من هذين المفكرين العظيمين كانت حياته بفترة زمنية مختلفة عن الآخر. وقد تحدث سميث عن تقسيم العمل مع بداية ظهور الصناعة بشكلها المتطور، في حين عاصرَ ماركس تقسيم العمل عندما كان الإنتاج الصناعي في أوج ازدهاره. في هذه المقالة سنقدم موجزاً سريعاً لأهم الأفكار التي تبناها كل من هذين المفكرين تجاه تقسيم العمل وعلاقته بالنمو الاقتصادي وأثره الاجتماعي.

يعتبر الفيلسوف الأخلاقي وعالم الاقتصاد الإسكتلندي آدم سميث مؤلف علم الاقتصاد الكلاسيكي ومن رواد الاقتصاد السياسي. اشتهر بكتابيه الكلاسيكيين: (نظرية المشاعر الأخلاقية) و(بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها). الذي نُشرَ في عام 1776. يعتبر سميث من أهم علماء الاقتصاد والاجتماع الذين طوروا أفكاراً مهمة حول المجتمع الصناعي الحديث. وعاش منذ عام 1723م إلى عام 1790م.

أما كارل ماركس فهو فيلسوف اقتصادي واجتماعي ألماني عاش ما بين 1818م إلى 1883م. وبلا شك يعتبر من أهم الاقتصاديين تاريخياً. وله كتب ومؤلفات في دراسة الاقتصاد السياسي أهمها (رأس المال) الذي صدرَ عام 1867م. قرأ ماركس لآدم سميث وناقش أفكاره وفقاً لمعاصرته للثورة الصناعية وتطور تقسيم العمل. تحدث ماركس عن تقسيم العمل من وجهة نظر اجتماعية واقتصادية كما ناقش البعد النفسي والاجتماعي المترتب عليه لدى العمال.

 

رأي آدم سميث بتقسيم العمل:

في كتاب (بحث في طبيعة ثروة الأمم وأسبابها) يبحث آدم سميث ملياً في السبب المباشر لثروة الأمم ويتساءل عن السبب الحقيقي الذي أدى إلى هذه الثروة. ووفقاً لاعتقاد سميث فإنَّ تقسيم العمل كان السبب الرئيسي لهذه الثروة، فقد أدى هذا التقسيم إلى زيادة إنتاجية العمل وكمية السلع بشكل مذهل ضمن فترة زمنية وجيزة. كيف جرى ذلك؟ دعونا نلقي نظرة خاطفة على أهم آراء سميث في هذا الموضوع:

يعتقد سميث أنّه عند تقسيم العمل ستزداد إنتاجيته حيثُ سيوفر العمال الوقت لأنه لا يتعين عليهم الانتقال من نوع واحد من المهام إلى نوع آخر. وإنما يصبح تركيزهم الأكبر على إنتاج جزء واحد بسيط وواضح لا تعقيد فيه من المنُتَج. هذا الأمر سيؤدي إلى اكتساب العمال الخِبرة والمهارة لأنهم قاموا بالتركيز على مهمة واحدة وبسيطة بشكل دائم وهذا التركيز سيؤدي حتماً إلى المزيد من الكفاءة. كيف ولماذا؟ يوضح سميث ذلك بتفسيره أنَّ التركيز بشكل دائم على مهمة واحدة سيؤول بالعامل إلى اكتشاف طرق أفضل وأسرع للقيام بالمهمة الواحدة المتكررة بسرعة أكبر وبدقة أعلى نتيجة استمراره في فعل نفس العمل وبالتالي خلق طرق أفضل وأكثر متعة لإنجازه لكيلا يشعر بالروتين.

أما عن أهمية تقسيم العمل في زيادة النمو الاقتصادي للبلدان فيوضح سميث أن الوقت الذي كان العامل الواحد سيحتاجه لإنتاج منتج واحد بشكل كامل سيتضاعف بشكل مذهل عندما يخصص العامل طاقته وعمله على جزء واحد من المنتج. ويتم توزيع العمل على عدد من العمال الذين سيعملون على الأجزاء الأخرى المختلفة للمنتج ذاتِه. ولعله من أكثر الأمثلة التي طرحها سميث انتشاراً عن فرق كمية الإنتاج بين تقسيم العمل ودونه، معمل الدبابيس الذي ينتج ما يقارب 48،000 دبوس في اليوم الواحد في حال تقسيم العمل في حين أن عاملاً واحداً سينتج عشرين دبوساً فقط في حال لم يقم بتقسيم العمل.

هذه الكثافة في الإنتاج التي ستؤدي إلى رخاء اقتصادي ستؤدي في النهاية إلى بذخ عالمي سيمتد إلى أدنى المراتب بين الناس. اعتقدَ سميث أنَّ جميع الأفراد سوف سيتفيدون من الثروة الجديدة. سيصبح الأغنياء بالطبع أكثر ثراءً لكن الفقراء سيصبحون أكثر ثراءً أيضاً وستنتشر وفرة عامة بين طبقات المجتمع المختلفة. وستؤدي الثروة المتزايدة إلى إنشاء مدن أكثر جمالاً مع المزيد من المسارح والطرق الواسعة وقاعات الحفلات الموسيقية الأنيقة والجامعات الأفضل وغيرها الكثير، وبالتالي إلى تقدم الحضارة بشكلٍ أساسي.

لكن كيف سيكون أثر تقسيم العمل هذا اجتماعياً يقول سميث إنه نتيجة لتقسيم العمل سيصبح كل عضو في المجموعة متخصصاً في إنتاج نوع واحد من الأشياء أو نوع واحد من الخدمة وهذا أمر جلي، لكن في النهاية يتلقى كل شخص ما يحتاجه نتيجة ميلنا البشري الطبيعي للتجارة والمقايضة والتبادل. أي أننا كبشر اجتماعيين وعلى الأرجح لا يمكننا أن نحيا وننجو من دون مساعدة بعضنا وتقديم الخدمات لبعض، ولكن في المقابل لا يمكننا أن نتوقع من الآخرين تقديم المساعدة بشكل مجاني ودون التفكير بمصلحتهم الشخصية وحياتهم هم. ويوضح أن البشر المترابطين يتبادلون الأشياء بأشياء أخرى، وفي هذه العملية يميلون إلى التخصص ويصبحون خبراء في إنتاج شيء واحد من الأشياء التي يمكن استبدالها بالأشياء التي يحتاجونها. هذا النمط من التفكير الاقتصادي جعل من سميث الأب الفكري لـ (الليبراليين المحافظين) الذين رأو فيه المفكر المثالي.

 

رأي كارل ماركس بتقسم العمل:

أما بالنسبة ل كارل ماركس فقد وصفَ تقسيم العمل بـ (العمل المغترب)، حيث يصبح العمال غير مدركين لنوع المنتج النهائي الذي يخرج من المصنع، وبهذا لا يستمدون أي نوع من الفخر من عملهم. ويعتقد ماركس أنّ مفهوم الاغتراب في العمل له بعدان اجتماعي ونفسي. اجتماعي لأنَّ العامل لم يعد يكترث بالانتماء إلى جماعة معينة بل تحول إلى نظام العمل الآلي مبتعداً عن جماعته ساعياً فقط للحصول على الأجر. أما البعد النفسي حسب رأي ماركس فكان انطلاقاً من تصوره للإنسان بكونه إنساناً عاملاً وبالتالي عمله في منتج محدد بشكل روتيني لا يخلق له الإبداع ولا التأمل في ذاته أثناء العمل الذي هو أساس البشرية وفقاً لماركس وبالتالي يبتعد العامل عن نفسه أيضاً ولا يعود يفكر بالقضايا المهمة التي تعنيه.

وكان لماركس رأي مختلف تجاه استفادة جميع الأفراد من الثروة الجديدة والغِنىَ العالمي الذي تحدث عنه سميث، فقد رأى أنَّ قوة الإنتاج هذه ستجعل رأس المال أكثر تمسكاً بقوته الاقتصادية وبطشِه الرأسمالي وسيفقد العامل قيمته الإنسانية وسيصبح بالإمكان استبداله بآخر تحت أي ظرف كان. وهذا سيجرد الإنسان من قيمته الحقيقية التي يعتقد ماركس بكينونتِها وهي _ كونه إنسان عامل_ لا بل ستصبح سمة العامل في ظل تقسيم العمل كنوع جديد من العبودية لكنها عبودية صناعية. وبهذا حسب اعتقاد ماركس فإنَّ الظروف الرأسمالية ستجرد الإنسان من إنسانيته وستفصله عما يعرفه على أنه عضو في الجنس البشري.

كذلك الأمر يتعارض ماركس مع سميث حول فكرة أن تقسيم العمل سيؤدي إلى تطور الحضارات. يرى ماركس أنه من المهم بمكان النظر إلى البنية التحتية لأي مجتمع قبل التخطيط للنظر إلى البنية الفوقية له. ما عناه ماركس بهذا الطرح أنه مع زيادة تقسيم العمل ستزيد الهوة بين رأس المال والعامل وسيزيد الانفصال والتباعد بين الطبقات الاجتماعية وسيزيد الفقراء فقراً والأغنياء غِنى. وبهذا ستتضرر البنية التحتية للمجتمعات مهما صنعت وقدمت من بنى فوقية متمثلة بالقانون والطب والفنون والعمارة وغيرها. وسيصبح العمال آلاتٍ صناعية مسخرة أكثر للعمل ولن يستطيعوا نيل حظوة هذه النعمة الحضارية.

ولهذا الأمر وصف ماركس بالمفكر المادي وذلك لأنه كان يعتقد بأنَّ التطور الاجتماعي مرتبط بالبنية الاقتصادية للدول، أي أنَّه إذا كانت البنية التحتية للمجتمع سليمة فسيزدهر وتزداد البنية الفوقية بشكل تراتبي. أما لو كانت البنية التحتية متهالكة فحتماً ستنهار البنية الفوقية.

 

خاتمة:

معروف عند ماركس أنَّ الإنسان كائن عامل ومنتج وبناء، وأنَّ العمل فضيلة وهو ما يمنح البشر كرامتهم. لذلك الأمر أشار ماركس بشدة إلى أهمية فهم الأثر الاجتماعي لتقسيم العمل. فقد أشارَ إلى أنّ العمل هو أكثر الإمكانيات والقدرات البشرية جمالاً والتي يشترك بها جميع البشر، ويعبرون عن أنفسهم عن طريقه، أما تقسيم العمل فقد أدى إلى تلوث تلك الفضيلة_العمل_ وتحويلها إلى مجرد سلعة في السوق الاقتصادية.

أما سميث فقد أشادَ بضرورة تقديم التعليم المناسب للعمال في ظل تقسيم العمل وذلك لكي تتخطى المجتمعات الفجوة الثقافية التي قد تنشأ عن انشغال العمال بعمل روتيني بسيط ودائم يفصلهم عن واقعِهم ولا يوفر لهم الظروف المناسبة لاختبار مهاراتهم. وكتبَ سميث بما معناه أنَّ العامل الذي قضى حياته كلِها في أداء العمليات البسيطة، والتي هي أيضاً ربما متكررة دائماً، لا يوجد لديه الفرصة لممارسة فهمه، أو ممارسة اختراعه في معرفة الذرائع لإزالة الصعوبات التي تحدث معه. وبطبيعة الحال يصبح على هذا النحو غبياً وجاهلاً في مجالات الحياة الأخرى، هذه هي الحالة التي قد تؤدي بالفقراء والعمال وهم الجزء الأكبر من الشعب إلى الفشل بالضرورة ما لم تتخذ الحكومة بعض الإجراءات لمنع ذلك.

لكن دعونا لا ننسى الفارق الزمني الكبير بين وجود آدم سميث وكارل ماركس. ذلك أن سميث كتب أفكاره تلك في ظل نشوء الصناعات المتطورة وبالتالي لم يعايش الأثر البعيد لتقسيم العمل كما عايشه علماء اجتماع آخرون عاصروا الثورة الصناعية بما لها من آثار سلبية من زيادة للفروق الطبقية داخل المجتمع الواحد وتغيير نمط العلاقة بين العامل ورأس المال.

في الختام لا بد لنا من ذكر أنه ما بين مزايا تقسيم العمل وعدمه، عواقب اجتماعية كبيرة علينا فهمها لنتمكن من النهوض بمجتمعات اقتصادية مستقرة وسليمة.

عهد بيرقدار

 

المراجع:

References

Adam Smith. (2021‎ ، August 11). Retrieved from Wikipedia: https://en.wikipedia.org/wiki/Adam_Smith

Bernard Mandeville and Adam Smith. (n.d.). Retrieved from Coursera: https://www.coursera.org/learn/classical-sociological-theory/lecture/jmyKP/2-3-the-division-of-labour

Karl Marx. (n.d.). Retrieved from Coursera: https://www.coursera.org/learn/classical-sociological-theory/lecture/6eQ0V/5-4-alienation

Karl Marx. (2021‎ ، August 13). Retrieved from Wikipedia: https://en.wikipedia.org/w/index.php?title=Karl_Marx&action=history

Smith، A. (1776). An Inquiry into the Nature and Causes of the Wealth of Nations. London: W. Strahan and T. Cadell، London.

 

العدد 1104 - 24/4/2024