شيوعيون في المساجد

عبد الرزاق دحنون:

غرابة العنوان تعود إلى غرابة الموقف، فقد لمحته مصادفةً خارجاً لتوّه من صلاة العصر، في مسجد عمر بن عبد العزيز، المتقشّف في بنائه مثل صاحبه، والواقع في حي (الكسيح) في مدينة إدلب في الشمال الغربي من بلاد الشام. أراد أن يختفي في زقاق مقابل باب المسجد. ناديته: يا رفيق! التفت مذعوراً والفزع في قسمات وجهه، وأنا فزعتُ لفزعه، ما كنتُ أقصد ترويعه، وكان من الأليق مناداته باسمه أو كنيته، في مثل هذا الموقف، ولكن هذا ما حصل.

هذا الرفيق من مواليد عام 1930، انتسب إلى الحزب الشيوعي السوري في أوائل خمسينيات القرن العشرين، وما زال إلى اليوم أميناً مُخلصاً لحزبه ولقائده التاريخي خالد بكداش. وكان عضواً في اللجنة المركزية للحزب الشيوعي فترةً لا بأس بها. ما الذي أفزعه حتّى تمنّى أن تنشقّ الأرض وتبلعه قبل أن يراني؟ هل لأنني ضبطتُه بـ(الجرم المشهود) يُصلّي في المسجد، وقد كان مُلحداً؟ ما الذي غيّر فكره؟ وهل الصلاة جريمة في عُرف من يعتنق الشيوعيّة، أو قُل المشاعيّة؟! وبتعبير آخر: هل من اللازم لتُمسي شيوعيّاً أن تُصبح ملحداً؟!

يُجادل الخلق في شأن دين أهل الشيوعيّة منذ أن وُجدت الأحزاب الشيوعيّة قبل أكثر من مئة عام. هل من الممكن أن تكون مسلماً تؤدّي فرائض دينك، حاجّاً- مثلاً- وشيوعيّاً في آنٍ معاً. أو مسيحيّاً تذهب إلى الصلاة في الكنيسة وتنشطُ في حزبٍ شيوعيّ؟ وقد رأيتُ رفاقاً لي في الحزب الشيوعي يعودون إلى أحضان الكنيسة مع التزامهم بالفكر الشيوعي، أو هذا ما يقرّون به علناً، وأنا أُصدّقهم، لأن عبارة: (أنت مُلحد) ثقيلة على النفس في مجتمعاتنا، أقْرَرنا بذلك أم نفيناه. وقد رأيتُ الأمين العام للحزب الشيوعي السوداني (محمد مختار الخطيب) يُصلّي الجمعة في المسجد مع قادة من المعارضة أيام الثورة السودانية في كانون الأول (ديسمبر) 2018 التي أسقطت الرئيس عمر حسن البشير.

الإلحاد في العموم لا علاقة له بالشيوعيّة، لأن الشيوعيّة في الأساس (فكرٌ ثوريّ كفاحيّ)، طريق عمل للخلاص من استغلال الإنسان لأخيه الإنسان، نهجٌ- إن شئت ذلك- يعتمد التضامن الجمعي من أجل الخلاص. أما الإلحاد فهو (فلسفة حياة) أو (فكرة فلسفية راقية) لا يستطيع فهمها والثبات على (منغّصاتها) مَن يعيش في بيئة دينية شديدة التأثير في مُحيطها. وفكرة الإلحاد قديمة قدم تاريخ الوعي البشري. والملاحدة في العموم ينتمون إلى تيارات سياسية واجتماعية مختلفة. وملاحدة اليوم جلّهم من العلماء في حقل العلوم الطبيعية، التجريبيّة منها والنظرية.

ولعلّها نادرة تستحقّ الذكر أنّ (مصطفى جقمور)، من أهل مدينة إدلب وأحد أعضاء الحزب الشيوعي السوري، ظلّ لأكثر من ستّين عاماً شيوعيّاً مؤذّناً، يؤذّن في الناس، ويُصلّي في المسجد. والشيوعيّة كما فهمها – رحمه الله- موقفٌ وجدانيّ مؤنسن بحب الناس.

هل عليكَ أن تهجر الشيوعيّة وأهلها إن كنت ترغب في أداء فرائض دينك؟ أو هل عليك أن تترك دينك لأنك شيوعي؟ وما تقول في (الشيوعي المزمن) الأديب السوري الكبير عبد المعين الملوحي، صاحب أكثر من مئة كتاب وقد عاش أزيد من تسعين عاماً، ومات شيوعيّاً مؤمناً؟ وله كتاب مشهور تحت عنوان (كيف أصبحتُ شيوعيّاً) كتبه ونشره وهو في حيطان التسعين من عمره، ما تفسير هذه الحالة؟ ما هو موقف الشيوعيّة من الدين؟ وهل الدين أفيون الشعوب؟ وهل فكرة الشيوعيّة عن الدين غامضة؟

يقول ماركس:

(الدين زفرة الكائن المثقل بالألم، روح عالم لم تبقَ فيه روح، وفكر عالم لم يبقَ فيه فكر، إنه أفيون الشعوب. إذاً فنقد الدين هو الخطوة الأولى لنقد هذا الوادي الغارق في الدموع).

وفي ترجمة:

(الدين في شطرٍ منه تعبيرٌ عن التعاسة الواقعية، وهو من جهة أخرى احتجاجٌ على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، وروح الظروف الاجتماعية التي طُرِدَت منها الروح. إنه أفيون الشعب).

وفي ترجمة أخرى:

(التشوّه الديني تعبيرٌ عن التشوه الواقعي واحتجاجٌ ضد هذا التشوه. الدين آهة المخلوق المضطهَد، قلب العالم عديم القلب، كما هو روح فكر عديم الروح. الدين أفيون الشعوب).

وفي ترجمة أيسر:

(إن التعاسة الدينية هي، في شطر منها، تعبير عن التعاسة الواقعية، وهي من جهة أخرى احتجاج على التعاسة الواقعية. الدين زفرة الإنسان المسحوق، روح عالم لا قلب له، كما أنه روح الظروف الاجتماعية التي طرد منها الروح. إنه أفيون الشعوب).

تعدّدت ترجمات العبارة الملتبسة في دلالاتها والفجّة في عباراتها، والتي حاول فيها ماركس الشاب -كان في الخامسة والعشرين من عمره- تقليد النمط الفكري الفلسفي السائدة في عصره، وهذه العبارة أشهر ما ورد عنه بشأن الدين، تجدها في مقدمة كتابه (مساهمة في نقد فلسفة الحق عند هيغل) مكتوبة عام 1844. وتجدها منتشرة بين الناس على نطاق واسع.

يُلاحظ القارئ الجيد لمؤلفات ماركس أن عباراته عن الدين يرجع معظمها إلى عهد الشباب، وهي تُعبِّر عن فكر شابّ لا فكر فيلسوف، وينبغي عند الاقتباس من ماركس الانتباه إلى المفاصل الزمنية المختلفة لتطور منهجه، فما يقوله ابن الخامسة والعشرين هو غير ما يقوله ابن الخمسين.

لو أمعنّا الفكر في هذه المقولة عن الدين لوجدنا أن الحماس الثوري لهذا المفكّر الشاب طغى في كلماته. ما معنى العبارة وماذا كان يدور في رأس ماركس؟ هل لخّص فيها رؤيته تجاه الأديان؟  وهل هذه المفهومات الدينية عن العالم تُخدِّر الناس وتُلهيهم عن شقاء الحياة واستغلال أصحاب رأس المال، فتنسيهم المطالبة بحقوقهم، والتفكير فيما يحيط بهم، وذلك طمعاً في حياة أفضل في ملكوت السماء أو في جنّة الله؟

أعرف تماماً قوة الضغط الهائلة من المحيط الأُسري والاجتماعي الذي يقع على عاتق المناضل الشيوعي. لأن كل شيوعي يُعاني معاناة شديدة من ذلك الضغط الذي تُسبّبه عبارة: (أنت ملحد). وحقيقة الأمر أنّ هذا الضغط يزيد كلّما تقدّم المرء في السنِّ. وزاد عدد أفراد أسرته وتشعّبت بهم دروب الحياة، لأن الأبناء قد تزوجوا، وأنجبوا، وكوّنوا علاقات اجتماعية متعددة، وصاروا يخجلون من أبيهم، لأنه شيوعي، وهذه (مصيبة كبرى) عليه أن يحلّها بنفسه، فيجد أبواب المساجد والكنائس مفتوحة أمامه، فيدخلها راغباً بذلك أو صاغراً.

تقول لي: جادِلهم بالتي هي أحسن، أو افتح معهم حواراً!

يا سيدي، كلام الليل يمحوه النهار، الكلام مهما كان قيّماً، قويماً، حسناً، فإنه لا يصنع معرفة حقيقية (ادْفَعْ بِالّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا الّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقّاهَا إِلّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ)، ولأن امتلاك المعرفة وشروط عملها في العقل يتطلّب الفهم، والفهم يتطور، فإنه يحضر على مراحل، تبدأ هذه المراحل من أروقة الكُتّاب والمساجد ومقاعد الدرس في الصغر، ولا تنتهي عند أبواب الجامعات ومراكز البحوث العلمية. وأنت تعلم أن الواقع أشياء عنيدة، على حدِّ تعبير لينين. انظر بعينك إلى مفهوم (التطور) كيف ما يزال غريباً في بيئتنا العربية الإسلامية غربة كتاب (أصل الأنواع) مع أن (التطور) أصبح حقيقة علمية راسخة رسوخ كروية الأرض ودورانها حول الشمس.

لذلك على الشيوعي أن يتجنّب هذا النوع من الجدل الذي لا فائدة مرجوّة منه. هذا عمل (الفلاسفة) وليس عامّة الخلق من رفاقنا الذين دخلوا الحزب الشيوعي لأنه ينتصر للفقراء والمستضعفين في الأرض. على الشيوعيين أن يستلهموا في كفاحهم اليوميّ ما يتناسب مع عصرنا الحالي كي يستطيعوا الاندماج في واقعهم الاجتماعيّ. بمعنى أن يكون حضورهم في حياة الناس الاجتماعيّة والاقتصاديّة غالباً على الحكي السياسيّ، وحتى لا تقتصر فعالياتهم على العمل الإيديولوجيّ في الأحزاب الذي يهرب الخلق منه هروب السليم من الجربان. وأظنُّ أن على الشيوعيين تجديد طُرق العمل بين الناس، وأحسبها بادرة طيبة أنْ يكون للشيوعيين مطاعم شعبيّة في الأحياء الفقيرة، بسيطة في شكلها، مجانيّة في تعاملها مع الخلق، منتشرة في أرجاء البلاد، يجلس على موائدها من يشاء، يأكل ما يشاء، كما يشاء، دون حسيب أو رقيب.

وإطعام الجياع مَهمَّة جليّلة تستحق من الشيوعيين العمل عليها في كفاحهم اليوميّ. ما أطيب أنْ يدخل الفقير الجائع مطعماً نظيفاً مُرتباً يُقدم وجبة أكل بسيطة مُشبعة، من ثمَّ يخرج حاملاً بيده جريدة ترفع شعار المطرقة والمنجل. هل يمكننا كشيوعيين تحقيق هذه الحلم؟ لأنني أعتقد أن الشيوعيّ عنده وجدان وضمير وشجاعة وقيم وأخلاق وإيمان. وهو في الأصل (مناضل اجتماعي) لا تحكمه السياسة بل يحكمه الضمير والوجدان. ولينظر كل شيوعيّ إلى ما آلت إليه أحوال الخلق في هذا الزمن الأغبر والذي من المفترض -من كل شيوعيّ- أن يكون مع الخلق ضد من يسعى لإذلالهم في معيشتهم.

وبما أن المُناضل الشيوعيّ- إن كان لابثاً في الحزب أو في حِلٍّ منه- كرّس مشروعه في مجمله لنصرة الخلق المتعبين، رفاق دربه من عمال وفلاحين وصغار كسبة وربات بيوت وفقراء ومساكين وأهل سبيل، فقد امتلك وجداناً يدفعه لأن يكون مناضلاً اجتماعيّاً، وهذا بكل تأكيد، لا يلزمه أن يكون مُلحداً في مجتمع يشكّل الدين فيه أحد أهم معتقدات الناس، ويحظى بتأثير كبير في سلوكهم وحياتهم وعاداتهم وتقاليدهم. ولا يمكن غضّ الطرف عن متعلّقات الدين السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة والثقافيّة. فتاريخ الشرق هو تاريخ الأديان، على حدِّ تعبير ماركس.

وهُنا أعود إلى مقدمة كتاب (مدارات صوفيّة) لصديقي البغدادي هادي العلوي، وأُنهي حديثي بما قاله عن الشيوعيّة- قبل أن أدخل في عواقب ومحظورات أنا في غنى عنها الآن- وتراني أميل لرأيه، رحمه الله:

(جاء كتاب مدارات صوفيّة- تراث الثورة المشاعيّة في الشرق- في مجمله لتعزيز الوجدان الشيوعي عند أجيالنا الجديدة لمساعدتهم في الخروج من حجاب العقيدة إلى فضاء الوجدان ولزعزعة المألوفات التي تعلّموها من الثقافة المترجمة. فلكي يكون الإنسان شيوعيّاً جيداً يجب أن يكون له قلب شيوعي لا مجرد فكر شيوعي. بل إن الشيوعيّة لا صلة لها بالفكر، بل هي ليست من الثقافة في شيء، بل إن أسوأ غرارات الشيوعيين هم المثقفون).

العدد 1104 - 24/4/2024