دردريّة بلا دردري!

د. أحمد ديركي:

مع تفكّك قطب الاتحاد السوفياتي الحامل لإيديولوجيا نقيضة لإيديولوجية القطب النقيض له، الولايات المتحدة الأميركية، تشظّت الدول الصغرى التي كانت تدور في فلكه، وهذا أمر طبيعي. ففي قوانين الفيزياء النيوتونية، عند انفجار الكتلة الكبرى تتشظى الكتل الأصغر المتأثرة بجاذبية الكتلة الأكبر. والتشظي هنا ليس بالضرورة أن يكون بالتفكك إلى كتل أصغر، وإن كان هذا قد حدث في كثير من البلدان وما زال يحدث، بل يمكن أن يعني أيضاً تغيّراً في مسار مدارات هذه الكتل الصغيرة لتلتحق بمدارات جديدة لكتل أكبر منها وذات كثافة عالية.

هذا ما حدث تماماً: تفكّك الاتحاد السوفياتي وبقي قطب واحد يهيمن على العالم حاملاً ما يعرف بالإيديولوجية الليبرالية، ويتميز بنمط إنتاج رأسمالي، وما الليبرالية إلا إحدى المراحل التاريخية لتطور نمط الإنتاج هذا، وها هي ذي اليوم تتطور وتنتقل من مرحلة (الليبرالية) إلى مرحلة (النيو_ ليبرالية)، أو (العولمة) كما يحلو للبعض أن يسميها. بينما حمل الاتحاد السوفياتي الإيديولوجية الشيوعية، التي على أساسها استطاع أن ينقل روسيا، بعد ثورة أكتوبر 1917، من دولة زراعية متخلفة إلى قطب عالمي يسير باتجاه تشكيل دولة اشتراكية. سبب عدم نجاحه موضوع بحاجة إلى أبحاث معمقة، وهذا خارج إطار موضوعنا الآن.

ولأن الدول التي كانت تدور في فلك الاتحاد السوفياتي كانت، وما زالت، تعاني من العديد من الإشكاليات المتعلقة بجوهر وجودها كدول بالمفهوم الحديث للكلمة، بدأت هذه الإشكاليات بالتفاقم والتعمق أكثر وأكثر في البنى الداخلية لهذه الدول.

لذا لجأت هذه الدول، من خلال أنظمتها السياسية المتشكلة في صيغ غير مكتملة، وحفاظاً على مواقع الطبقات المستفيدة من هذا النموذج من الأنظمة السياسية، الالتحاق بالقطب الرأسمالي من دون الإعلان المباشر عن التحاق به. لأن الاعتراف بهذا الالتحاق بالقطب الرأسمالي سوف يزيد من عمق الإشكاليات الداخلية لهذه الدول ما قد يؤدي إلى تشظيها، بمعنى تفككها داخلياً، بوتيرة متسارعة. ولكن هذا ما حدث، وجلّ ما استطاعات القيام به هو تأجيل تشظّيها، فحدث الأسوأ.

أمر يمكن لحظه في معظم الدول العربية حالياً، وبخاصة تلك التي كانت تسير في فلك الاتحاد السوفياتي، إلا قلة منها، وهي ليست بمنأى عن هذا المصير حتى تلك الدول التي كانت وما زالت تسير في فلك الولايات المتحدة الأمريكية.

سورية إحدى هذه الدول التي كانت تسير في فلك الاتحاد السوفياتي، ويمكن لحظ هذا في العودة إلى تاريخ العلاقات بين البلدين. إن لم تكن من محبي قراءة التاريخ والسياسة والاقتصاد والفلسفة و… أي بالمختصر، إن لم تكن من محبي القراءة فقط، يمكنك النظر إلى أسلحة الجيش لتعلم في أي فلك تدور هذه الدولة أو تلك.

إحدى الإشكاليات الرئيسية، لا الفرعية، التي كان يعاني منها النظام السوري، طبعاً إضافة إلى العديد من الأنظمة الشبيهة له، دورانه في فلك يحمل إيديولوجية واضحة ألا وهي الشيوعية، في الوقت الذي كانت فيه سورية، كنظام سياسي، لا تتوافق معه في هذه الإيديولوجية! وعلى سبيل المثال، لا الحصر، مسألة (الاشتراكية) والخلاف بين الاشتراكيتين، المفهوم الشيوعي للاشتراكية، ومفهوم النظام السياسي في سورية للاشتراكية. ولن نخوض هنا في نقاش خصوصية كل بلد وما يتفرع من إشكاليات في هذا النقاش. أيضاً بشكل مختصر الاتحاد السوفياتي كان شيوعي الإيديولوجيا، في الوقت الذي كانت فيه سورية غير شيوعية الإيديولوجيا! فكيف لقطب أن يكون حليف دولة صغرى لا تتوافق معه إيديولوجياً؟ والعكس صحيح، وهذه إشكالية أخرى!

فالاختلاف الإيديولوجي ما بين القطب وحليفه، وبخاصة من الدول الصغرى التي تدور في فلكه، تخلق متاهات سياسية لدى الدول الصغرى تنعكس سلباً في الوعي المجتمعي لدى جماهيرها.

نتيجة لكل هذه الإشكاليات المتداخلة على كل المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية، خسر النظام السوري الوعي المجتمعي للجماهير، كالعديد من الأنظمة المشابهة له، والتحق للسير في فلك نمط الإنتاج الرأسمالي، بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، مموّهاً مساره بنظام خليط غير واضح المعالم الإيديولوجية. وعلى سبيل المثال، لا الحصر، بنظرة سريعة، لا متسرعة، إلى نظامها الاقتصادي، يمكن القول إنه ليس بنظام اشتراكي وليس بنظام رأسمالي! جل ما في الأمر أنه كان أقرب إلى مفهوم (دولة الرعاية الاجتماعية)!

بقي الحال على ما هو عليه والأزمة الداخلية تتفاقم والظروف الخارجية تزيده تأزيماً.

فحاول الانتقال بشكل تدريجي من الفلك السوفياتي إلى فلك نمط الإنتاج الرأسمالي، ويعود السبب في هذا إلى عدم مقدرتها كدولة صغيرة أن تكون خارج أي فلك لقطب، ولأن الفلك الوحيد المتبقي هو الرأسمالي جرى التقرب منه قدر المستطاع بغية التأهل للانخراط فيه.

حدث هذا في مرحلة النيوليبرالية، من نمط الإنتاج الرأسمالي. هذا الانخراط التدريجي في فلك النيوليبرالية تسارع مع عبد الله الدردري. الحديث هنا عن الدردري ليس مقصوداً فيه شخص الدردري، بل ما يمثله من نهج فكري. فكان تسلمه زمام الاقتصاد السوري ناجماً عن موافقة الجميع داخلياً وخارجياً ليشرف على عملية الانتقال إلى النيوليبرالية. وهنا تتمظر إشكالية اخرى، فكيف لدولة لم يصل اقتصادها إلى مرحلة الليبرالية أن تنتقل إلى النيوليبرالية؟ والإشكالية الاخرى، وهي أيضاً أساسية ومتعلقة بالأولى، هل يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة؟ أي هل يمكن إحداث تغيير اقتصادي من دون إحداث تغيير سياسي؟

قام الدردري بما هو مطلوب منه! ولكن عمق الإشكاليات، الداخلية والخارجية، المتعددة والمتشابكة أدى إلى انفجار سورية داخلياً خلال المرحلة الانتقالية. كي لا يفهم وكأن الدردري سبب كل ما حدث وما يحدث، بل المقصود كل هذ الإشكاليات، المذكورة وغير المذكورة، أوصلت سورية كدولة إلى الحالة الراهنة.

أجّل الانفجار الداخلي انخراط سورية في فلك النيوليبرالية، ولكن التأجيل لا يعني إلغاء الانخراط. ففي الفترة الأخيرة، أي بعد الهدوء النسبي على كل الجبهات الداخلية بدأت معالم الدردرية بالظهور مجدداً وبشكل واضح.

فليس من العجب ما نسمعه أو نشهده من قرارات تمس بنية الاقتصاد السوري. فهذا نهج بدأ النظام باتباعه منذ ما قبل الدردري، ويبدو أنه حان وقت العودة لاستكمال تنفيذه. فالنهج يمكن تطبيقه من دون الحاجة إلى وجود شخص الدردري، وهذا المقصود بالنهج الفكري. وكون الدردري، كما يبدو من أتباع المدرسة النيوكينزية فلا حاجة إلى وجود كينز لتطبيق النيوكينزية!

من هنا مجدداً لا عجب في كل ما يحدث من تغيرات في بنية الاقتصاد السوري ومن القرارات الحكومية المتعلقة به. فهذا مسار نهج سياسي اقتصادي فاقدٍ لقاعدته الاجتماعية، وإن كان غياب الوعي الاجتماعي، والأصح الوعي الطبقي سببه اغتيال الحياة السياسية والسماح للفكر الديني بأن يلعب دور الفكر السياسي، يشكل جزءاً من تطبيق هذا النهج، إلا أنه لا يعني أبداً إمكانية استمرار تطبيق النهج من دون معرفة المتغيرات!

فالمجتمع السوري، بعد كل المتغيرات التي أصابته منذ 2011 ولغاية الآن، يعاني من تفاوت طبقي صارخ، فما يقرب 80% من سكان سورية يعيشون دون خط الفقر، نسب بطالة تعد من بين أعلى النسب في العالم، بنى تحتية في حال يرثى لها، تدنٍّ في الخبرات نتيجة للهجرة، هرم سكاني شبه مشوه، فكر ديني متجذر في البنى الاجتماعية وغيرها من البنى و… ألف وألف مؤشر سلبي على متغيرات أصابت سورية في الصميم لا في الشكل، لذا العودة إلى الوراء، المربع صفر، من دون أن تؤخذ بعين الاعتبار كل هذه المؤشرات على المتغيرات والعمل على الدفع بالنهج الدردري، وكأن شيئاً لم يحدث، حتماً سيؤدي إلى تجدّد الانفجار في الداخل، وحينئذٍ من المسؤول؟

العدد 1102 - 03/4/2024