الليبرالية الاقتصادية الجديدة.. أين الرفاه؟
بشار المنيّر:
في عقد الستينات الذهبي، عبر الرئيس (جون كنيدي) عن التطلع إلى الرفاهية المتزايدة للجمهور الأمريكي الواسع بعبارة وجيزة، وصيغة خالية من التعقيد (عندما يرتفع سطح البحر فسترتفع معه جميع السفن الطافية على المياه أيضاً) إلاّ أن الليبرالية الجديدة في عهد ريغان خلقت نهجاً اقتصادياً يتناقض وهذه الصورة المجازية، فارتفاع سطح البحر لم يرفع جميع السفن، لقد ملأت الثقوب أجسام الكثير منها، فغرقت.. وانفردت بعض السفن الكبرى بإدارة الاقتصاد الأمريكي والعالمي، وأملَت شروطها على القادة السياسيين لتضع قواعد جديدة لمرحلة بدايتها في ثمانينيات القرن الماضي أما نهايتها فيدخل في الماورائيات.
لقد ارتفع الناتج الإجمالي في الولايات المتحدة بين عامي 1973 – 1994 بمقدار الثلث.
لكن ثلاثة أرباع العاملين أصبحوا يحصلون على أجر يقل بنسبة 25% عما كان سائداً قبل عشرين عاماً، وذهب فائض النمو المتحقق إلى الخمس الثري في المجتمع الأمريكي، لقد تسيد هذا المجتمع مبدأ قوامه: الرابح يحصل على كل شيء.
لقد انتشرت حمى خفض التكاليف بالنسبة لجميع الصناعات الأمريكية، ولأن التطوير التكنولوجي يكلف الكثير من النفقات ليتساوى مع التطور الحاصل في الصناعات اليابانية المنافسة، فقد لجأت الشركات الأمريكية إلى طريقتين لخفض تكاليفها، الأولى تتمثل في عقود للعاملين لمدة محددة، وعقود أخرى لا تتضمن راتباً ثابتاً بل مكافأة تختلف من حالة إلى أخرى، وهكذا بلغ عدد العاملين المشمولين بتلك العقود خمسة ملايين عامل، وهم طاقات احتياطية لدى الشركات الكبرى تستخدمهم و تردهم إلى الشارع عندما يتطلب السوق ذلك، والطريقة الثانية هي هجر الوطن باتجاه آسيا وأمريكا اللاتينية بحثاً عن الأجر المنخفض والخلاص من النفقات الاجتماعية والبيئية المكلفة في بلادهم، فعمالقة صناعات الأحذية مثل (نايكي)، وألعاب الأطفال مثل (مارتل) أصبحوا مستوردين لبضائعهم من منتجين آسيويين، ومصدرين لبضائع أخرى تنتجها معاملهم المنقولة إلى هذا البلد أو ذاك، فمن إندونسيا.. إلى بولندا.. إلى المكسيك ، تنتشر تلك المعامل في ظل حرية نقل رؤوس الأموال، ويعمل نصف مليون عامل مكسيكي حالياً بأجر لا يزيد عن خمسة دولارات يومياً، أي بأجر لا يسد الرمق، ودون أي تأمين صحي أو ضمان اجتماعي.(1)
أما الحكومات.. تلك التي أصبحت سياساتها الاجتماعية في عالم النسيان، فقد حاولت اتخاذ بعض التدابير الهادفة إلى عودة المساواة الاقتصادية والاجتماعية، لكن محاولاتها جوبهت برد عنيف من قبل الشركات الكبرى، مهددة… متوعدة، ففي عام 1999 حاول
أوسكار لافونتين (وزير المالية الألماني) رفع العبء الضريبي على أرباح الشركات بعد أن هبط هذا العبء بنسبة 50% خلال العشرين سنة الماضية، لكن دوتش بنك وشركة ب. م.ف لصناعة السيارات ومجمع التأمين اليانس وشركة ديملر بنز – يشكل هؤلاء عماد الاقتصاد الألماني – هددوا بنقل استثماراتهم ومصانعهم إلى أقطار أخرى إذا لم تتراجع الحكومة عن محاولاتها زيادة الضريبة على أرباحهم، وانتهى الأمر باستقالة (لافونتين)، وفي قرننا الجديد تقرر الشركات الكبرى مقدار ما تدفع من الضرائب.. وأين تدفعها ، فهي تستقر في بلد منخفض الضرائب، ووسائل إنتاجها في مكان آخر، وتبيع بضائعها من مكان ثالث وهمي لاتصل إليه الاجراءات الحكومية، فإمبراطورية ( روبرت ميردوخ( الإخبارية التي بلغت أرباحها في بريطانيا بين عامي 1987- 1999 ما يعادل 2.3 مليار دولار، لم تدفع هناك أي ضريبة، ولم تتجاوز الرسوم التي دفعتها في العام أكثر من 6% من الأرباح، إن الحكومات تواجه خيارين متكافئين في صعوبة التطبيق، فهي لا ترغب في خسارة دعم الناخبين الكبار من أصحاب الشركات العملاقة برفعها لمعدلات الضريبة، ولا تستطيع زيادة الإنفاق الاجتماعي بسبب تواضع مساهمة الضرائب في إيرادات الخزينة، والخوف من انتقاد الفعاليات الاقتصادية المؤثرة لها بأنها تتدخل في آليات السوق، وفي كثير من الأحيان تلجأ الحكومات إلى توجيه رعايتها إلى من لا يحتاجها… ففي الولايات المتحدة تبلغ المساعدات السنوية التي تقدمها الإدارة الأمريكية للشركات ( 75 ) مليار دولار في حين أصبح الضمان الاجتماعي للعاطلين عن العمل مشروطاً أكثر،ولا يستفيد من منح البطالة اليوم إلاّ 29% من العاطلين عن العمل، بينما كانت 70% في عام 1986. (2)
لقد أدى هذا الانحدار الخطير في وظيفة الدولة الاجتماعية إلى تزايد عدد الأمريكيين الذين يعتقدون بعدم صوابية هذا التوجه، بما فيهم أولئك الذين ينتمون إلى (الطليعة (
البيضاء ( الثرية، فقد كان ( ادوارد لوتوك ( الاقتصادي البارز لدى المحافظين الجدد في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية من أكبر دعاة الحرب الباردة فيما مضى، لكنه تحول إلى أكثر نقاد التوجه الاقتصادي الجديد شدة، فهو يرى ( أن ما تفرزه الرأسمالية في عصر الليبراليين الجدد هي في واقع الحال نكتة خبيثة ، فما كان يزعمه الماركسيون قبل مئة عام أضحى الآن حقيقة، فالرأسماليون يزدادون ثراءاً والطبقة العاملة تزداد فقراً وأن المنافسة المعولمة تطحن الناس طحناً،وتدمر التماسك الاجتماعي (3).
إنها الليبرالية الاقتصادية الجديدة… السيطرة الشاملة لرأس المال المنفلت من كل القيود الاقتصادية والاجتماعية، والساعي إلى المجتمع الكوني الذي يمثل الخمس الثري، أما الأخماس الأربعة الأخرى، فعليها تلقي وسائل البقاء من حكوماتها العاجزة بطريقة التنقيط.
المراجع
1- هيرالد تريبيون الدولي – تشرين الثاني 1995
2- الايكونوميست – أيار 1997
3-بيتر مارتين وهارالد شومان ( فخ العولمة(