الإعلام ما بين سطوة المال والنفوذ

إيمان أحمد ونوس:

يحتل الإعلام بشكل عام مكانة رفيعة في كل الدول، باعتباره الأداة التي تعمل على متابعة مجريات الحياة بمختلف اتجاهاتها، فهي تقوم برصد مختلف الأنشطة المجتمعية السياسية والاقتصادية والدينية …الخ، في سعي دائم وحثيث لكشف الحقائق وتوجيه الرأي العام باتجاه الهدف الأساسي والجوهري، ألا وهو الارتقاء بالفرد والمجتمع والدولة على كل المستويات والاتجاهات. وتحتل الصحافة أحد أهم فروع الإعلام المكانة ذاتها، لما تقوم به من تسليط الضوء على كل ما له علاقة بالحياة الرسمية والعامة على حدّ سواء، فكان أن سُمّيت صاحبة الجلالة، لما لها من سلطة ونفوذ تؤهلها لتشكيل رأي عام محلي أو عالمي من خلال القضايا التي تتناولها بجرأة ووضوح، والتي من الممكن أنها تُغيّر في العديد من التوازنات والمواقف الحسّاسة غالب الأحيان. ولهذا نجد أن هناك مؤسّسات إعلامية دولية عملاقة ذات نفوذ لا يُستهان به من حيث التأثير في مجريات الأحداث الدولية أو المحلية لبعض الدول الكبرى، أو تلك التي تحتل مكانة مرموقة في بعض المجالات والمسارات، ولا يفوتنا أن هذه المؤسّسات الإعلامية تُشكّل عامل ضغط كبير لتغيير مواقف وأجندات سياسية أو اقتصادية …الخ، تصبُّ في صالح أهدافها المرسومة بدقّة، ذلك أنها تمتلك من المال ما يُعزّز حضورها وتأثيرها الكبيرين.

غير أن الإعلام عموماً، والصحافة خاصّة في العالم النامي، تخضع دوماً لقوانين صارمة وقيود تُفرغها من مضمونها وتبعدها عن رسالتها السامية الساعية إلى المزيد من الدعم المعرفي المتنوّع للناس، إضافة إلى مشاركة أولئك الناس في معرفة الحقيقة المتعلّقة بحياتهم ومعيشتهم ومصائرهم. ذلك أن النظم السياسية السائدة في المجتمعات النامية أو المتخلّفة تقوّض كل ما من شأنه خلخلة وجودها وقيمها المتخفيّة برداء من الديمقراطية الزائفة المُستندة إلى قوانين تتناسب واستمرارية التسلّط والسطوة لهذه الأنظمة التي تعمل على تأسيس منظمات وهيئات إعلامية قائمة على تشريعات وقوانين تصبُّ في مصلحتها، من حيث الترويج لأهدافها ومصالحها عبر تغييب شبه كامل للحقائق على الأرض، مقابل كمٍّ كبير من الشعارات والخطط والبرامج الموجّهة للشعوب، بما يجعلها مقتنعة بأن هذه النظم (الديمقراطية!) تعمل فعلاً لخدمتها ورفاهها ما أمكن، في تضليل تام تسيطر خلاله فردانية الأنظمة وتحكّمها بالحقائق الواجب إظهارها أو تغييبها، لاسيما ما يتعلّق بالقضايا الكبرى، أو تلك التي تتناول أوضاعاً طارئة أو مستجدّة كالنزاعات والحروب، أو ما يتعلّق بما تطرحه الفئات المعارضة لهذه الأنظمة، والتي تحاول تغيير الواقع أو تصويب الأخطاء المرتكبة عمداً أو إغفالاً فيما يخص الحياة الاقتصادية والسياسية والمجتمعية بشكل عام. هنا ينبري الإعلام الرسمي لتشويه الوقائع والحقائق القائمة في تضليل تام للعامة الذين لا يمتلك غالبيتهم أدوات التفكير العقلاني، بقدر ما يُفرض عليهم ويتماهون مع السائد من قيم وعلاقات ومناهج تفكير وعمل فرضتها تلك الأنظمة، كما تنبري الأجهزة الأمنية لاحتواء الأصوات النشاز بشكل يُثير الهلع بقدر ما يُثير الكثير من التشويه والاتهامات غير المنطقية للمعارضة وأقلامها، ما يجعل المجتمع في حالة من التيه ما بين الواقع الحقيقي، وما تفرضه الأنظمة من رؤى ومعايير للوطنية من وجهة نظرها، فيحدث الانكفاء المجتمعي أو القطيعة مع ما يبثّه الإعلام الرسمي أو حتى المعارض، فيبقى الإعلام حالة ترفية نخبوية تخدم شرائح مُحدّدة من المجتمع، وبالتالي نكون أمام إعلام مهمّش لا يمكنه الارتقاء إلى مستوى احتياجات الفرد والمجتمع والدولة، كما لا يمكنه أبداً التصدي لمختلف المشاكل والصعوبات التي تعترض جوانب متعددة من حياة الدولة (اقتصاد، اجتماع، ثقافة وفكر… الخ) بسبب ما يوضع في طريقه من عراقيل ومحاذير.. إعلام مخصي لا يمكنه المنافسة وسط سطوة الإعلام العالمي المتطور والمتنوّع والذي يكون له دوماً السبق الأبرز في التعاطي مع مختلف القضايا والأمور المحلية والدولية بشكل متميّز وساحر، فيذهب بالعقول بعيداً عن مصالح أصحابها وحقوقهم.

لكن، ورغم ما يتمتّع به الإعلام في الدول المتطورة من حرية ومصداقية في التعاطي مع مختلف القضايا المحلية بالنسبة لمواطنيهم، إلاّ أن هذا الإعلام ذاته لا يختلف كثيراً في بعض القضايا المتعلّقة بمصالح تلك الدول وأهدافها، إذ يجري التلاعب بالعديد من الحقائق والأخبار المُراد إيصالها إلى الناس، لتكوين رأي عام يخدم مصالحها لاسيما في القضايا الدولية الكبرى، وهنا أيضاً يعيش العامة حالة مشابهة لتلك القائمة في الدول المتخلفة حيث التضليل الإعلامي سيّد الموقف بما لا يدع مجالاً للناس لرفض السياسات الدولية لحكوماتهم.

وعليه، يمكننا القول إن لا إعلام أو صحافة حرّة ونزيهة في العالم، بل هناك إعلام موجّه لغايات وأهداف تسمو فوق الحقائق مثلما تسمو فوق البشرية.

العدد 1102 - 03/4/2024