فرضيّات حول فائض القيمة

عبد الرزاق دحنون:

فَرضيّة: اسم، والجمع: فَرْضِيّات: رأيٌ علميّ لم يثبت بعد، افتراض على سبيل الجدل. فكرة يؤخذ بها في البرهنة على قضية أو حل مسألة. هي تفسير مقترح لظاهرة ما. لنأخذ مثلاً فرضيّة (فائض القيمة)، أو كما ترجمها إلياس شاهين في مؤلفات لينين (القيمة الزائدة)، وهو مفهوم استخدمه كارل ماركس في نقده للاقتصاد السياسي. رغم أن ماركس نفسه لم يخترع المصطلح، فقد ساهم بشكل كبير في وضع مفهومه. ويشير المفهوم بشكل تقريبي إلى (القيمة الزائدة) التي تنشأ بواسطة العمل غير المأجور من قبل العامل بناء على قيمة قوة العمل، التي هي من خصائص الأنظمة الرأسمالية وقاعدة الربح لها، كما ترى الماركسية، وهكذا يكون فائض القيمة هو أساس تراكم رأس المال.

فهل هذه الفرضيّة ترقى لمستوى (نظريّة علميّة) يمكن الركون إلى براهينها التي ما تزال تُعرض علينا إلى يومنا هذا؟ وهل ما زال (فائض القيمة) هو القاعدة الأساسية للربح في الاقتصاد الرأسمالي اليوم، من خلال تراكم رأس المال، على افتراض وجود (فائض القيمة) كما كان أيام كارل ماركس، وعلى افتراض وجود الاقتصاد الرأسمالي على حاله القديم؟ وما شكل (فائض القيمة) في الاقتصادات التي اعتمدت النهج الاشتراكي؟ أم أن المصانع التي تُديرها الدولة لا يُنتج فيها العامل (فائض قيمة) أو (قيمة زائدة) تُضاف إلى البضاعة، مع أن المصانع الاشتراكية تُنتج بضاعة، والبضاعة المنتجة لا بد أن يكون (فائض القيمة) قد اندمج فيها.

ويبقى السؤال مشروعاً حتى اليوم: هل يُضيف العمال من خلال (قوة عملهم) قيمة زائدة إلى رأس المال، أم أن هذه الفرضية انتهت مع انتهاء الشكل القديم للرأسمالية الصناعية التي كانت تعتمد في إنتاجها على أعداد غفيرة من الطبقة العاملة -البروليتاريا كما سماها (البيان الشيوعي)_ وأصبحت اليوم تعتمد المكننة في الإنتاج بشكل كبير ومتنوع؟

يوضح فريدريك إنجلز مصدر فائض القيمة، ويسأل: من أين جاء فائض القيمة هذا الذي نفترضه؟ لا يمكن أن يكون قد جاء من المشتري الذي يشتري السّلع بأقل من قيمتها، أو من البائع الذي يبيعها بأكثر من قيمتها. في كلتا الحالتين تلغي المكاسب والخسائر لكل فرد بعضها، لأن كل فرد هو بدوره مشتر وبائع. كما لا يمكن أن يأتي من الغش والاحتيال، فعلى الرغم من أنه قد يؤدي إلى ثراء شخص ما على حساب آخر، إلا أنه لا يمكنهُ زيادة إجمالي المبلغ الذي يمتلكه الاثنان، وبالتالي لا يمكنه زيادة مجموع القيم المتداولة. يجب حل هذه المشكلة، ويجب أن يكون حلها بطريقة اقتصادية بحتة، بعيداً عن الغش والاحتيال وتدخل أي ضغوط أو إكراه أو إجبار، المشكلة هي: كيف يمكن للمرء الاستمرار في البيع بسعر أعلى من سعر الشراء، حتى مع افتراض أن القيم المتساوية يتم تبادلها دائماً بقيم متساوية؟

تلخّص حل ماركس في التمييز بين القوى العاملة ووقت العمل المُنجز. فالعامل المنتج بالقدر الكافي من الممكن أن ينتج قيمة أعلى من قيمة تكاليف توظيفه. على الرغم من أن أجره يبدو مستنداً إلى ساعات العمل، إلا أنه -اقتصادياً- لا يعكس القيمة الكاملة لما ينتجه العامل. بشكل أوضح: لا يبيعُ العامل العملَ، بل كفاءته وقدرتهُ على العمل. وهُنا لابد أن نُلاحظ أن وقت العمل المُنجز الذي يحصل بموجبه العامل على أجره يختلف اختلافاً بيّناً عن وقت العمل الاجتماعي الذي من المفترض أن يضمن للعامل دخلاً مريحاً يُغطي تكاليف المعيشة. فمن غير المعقول، عملياً، أن يشتغل العامل ما يفوق قدرته على العمل وفي الوقت نفسه لا يستطيع تأمين حاجيات معاشه، فمن حقه هُنا أن يثور على رب العمل.

هل الرأسمالي يربح من قوة عمل العامل لأن العامل حوّل قوة العمل -التي لا يملك غيرها- إلى سلعة أو بضاعة يمكن بيعها في السوق بأرخص من سعر الكلفة حتى يُطعم ويُعيل، من بيع قوة عمله، أسرته؟ ومن يُحدد سعر ساعة قوة عمل العامل؟ هل السوق من يفعل ذلك؟ أم صاحب رأس المال؟ أم المجتمع؟ حيث تجد السلعة نفسها -من المصنع نفسه- تُباع في كندا بسعر غير سعرها في العراق أو في بلجيكا. ما السبب؟ هل هو دخل الفرد المختلف بين دولة وأخرى؟ بل وأكثر من ذلك في الدول التي تعتمد الاقتصاد الحر تجد السلعة نفسها تُباع بأسعار مختلفة في أسواق المدينة نفسها. ولا يمكن هنا للعامل الذي أنتج السلعة هذه الحصول على الفائدة مباشرة لأنه لا يملك أي حقّ في وسائل الإنتاج ومنتجاتها، كما أن قدرته على المساومة في الأجور مقيّدة بقوانين العرض والطلب.

ميّز ماركس بوضوح بين القيمة والسعر، ويرجع ذلك جزئياً إلى التمييز الواضح الذي وضعه بين إنتاج فائض القيمة وتحقيق الدخل من الأرباح: قد يتم إنتاجُ منتج يحتوي على فائض القيمة، ولكن بيع ذلك المنتج ليس عملية تلقائيّة على الإطلاق. إلى أن يتم تسلم الدفعات من المبيعات، فإنه ليس من المؤكد كم هو فائض القيمة الذي سَيُتَحَققُّ بشكل فعليّ كأرباح منها. على هذا فإن حجم الأرباح المحققة على هيئة أموال ومقدار فائض القيمة المنتجة على شكل منتجات قد يختلف إلى حدّ كبير، اعتماداً على ما يحدث لأسعار السوق وتقلبات العرض والطلب. تشكل هذه الرؤية الأساس الذي تقوم عليه نظرية ماركس لقيمة السوق، وأسعار الإنتاج، وميل معدل أرباح الشركات المختلفة إلى التسوية عبر المنافسة.

في مخطوطاته الكتابيّة المنشورة وغير المنشورة، خاض ماركس بتفاصيل كثيرة لدراسة العديد من العوامل المختلفة التي قد تؤثر على إنتاج وتحقيق فائض القيمة. اعتبر أن ذلك أمراً بالغ الأهمية بغرض فهم ديناميكيات وأبعاد المنافسة الرأسمالية، ليس فقط المنافسة التجارية بل أيضا المنافسة بين الرأسماليين والعمال وبين العمال أنفسهم. لكن تحليله لم يذهب إلى ما هو أبعد من تحديد بعض النتائج الإجمالية لهذه العملية.

الاستنتاج الرئيسي الذي خلص إليه هو أن المشغلين سيهدفون إلى زيادة إنتاجية العمل والاقتصاد في استخدام الأيدي العاملة، وخفض تكلفة الوحدة الخاصة بهم وزيادة صافي عائداتهم من المبيعات بأسعار السوق الحاليّة وبسعر السوق السائد للمنتج، فإن كلَّ خفض للتكاليف وكل زيادة في الإنتاجية ودورة المبيعات من شأنه أن يزيد من صافي الأرباح لهذا المنتج. أما الطريقة الرئيسية فهي الأتمتة التي تزيد من حجم رأس المال الثابت في الاستثمار. وهذا ما حدث فعلاً في واقع الأمر.

كانت المحاولة الأولى لقياس معدل فائض القيمة في وحدات المال من جانب ماركس نفسه في الفصل التاسع من كتاب رأس المال باستخدام بيانات مصنع الغزل التي قدمها فريدريك إنجلز. في كل من المخطوطات المنشورة وغير المنشورة، يبحث ماركس بالتفصيل المتغيرات التي تؤثر على معدل وحجم فائض القيمة.

يزعم بعض خبراء الاقتصاد الماركسيين أن ماركس تصور أن إمكانية قياس فائض القيمة تعتمد على البيانات المتاحة للعلن. يمكننا وضع مؤشرات إحصائية للميول، دون الخلط الخاطئ بين البيانات والشيء الحقيقي الذي تمثله، أو افتراض القياسات المثالية أو البيانات المثالية بطريقة تجريبية.

 

ملحوظة مهمة:

عملتُ أكثر من سنة في مصنع تملكه شركة هولندية لصناعة (الجينز) بمختلف أشكاله في مدينة (إزمير) على شاطئ بحر إيجة. يذهب إنتاج المصنع إلى أسواق الاتحاد الأوربي. عمال المصنع في حدود 300 عامل من الجنسين، يتوزعون على ثلاث ورديات، لأن المصنع يعمل على مدار الساعة. وبعض الأقسام يتوقف العمل فيها مع انتهاء الوردية الصباحية في الساعة الرابعة بعد الظهر. بنطال الجينز كي يكتمل ويصبح جاهزاً للبيع يمرّ على جميع الأقسام. حاولتُ مع بعض العمال أن نحسب (فائض القيمة) الذي ننتجه، فلم نفلح في حسابه، واستعصى الأمر علينا، كان الأمر صعباً جداً، لتعدد مراحل صنع بنطال الجينز، وتاهت الحسابات بين الأقسام المختلفة. وفي النتيجة نحن بكل تأكيد نُضيف (فائض قيمة) ما إلى بنطال الجينز، وبالتالي لرأس المال، ولكن هل يمكننا حساب ذلك؟ وهل هذه الإضافة تُشكل تراكماً في رأس مال المصنع؟

بُذلت محاولات عديدة من خبراء الاقتصاد الماركسيين لقياس الميل في فائض القيمة إحصائياً باستخدام بيانات الحسابات القومية. يشتمل هذا النوع من البحوث عادة على إعادة صياغة مكونات المقاييس الرسمية للناتج الإجمالي والإنفاق الرأسمالي من أجل تقدير الميول في النسب التي يرى البعض أنها مهمة في التفسير الماركسي لتراكم رأس المال والنمو الاقتصادي: معدل فائض القيمة، ومعدل الأرباح، ومعدل الزيادة في المخزون الرأسمالي، ومعدل إعادة الاستثمار لفائض القيمة المحققة في الإنتاج.

العدد 1102 - 03/4/2024