ليس اليتيم من فقد والديه في الحياة

ريم داوود:

ليس اليتيمُ مَن انتهى أبواه مِن

همّ الحياة وخلّفاه ذليلا

إن اليتيم هو الذي تلقى له

أمّاً تخلّت أو أباً مشغولا

ينمو الأطفال ويشبّون وفق اتجاهات ومسارات عديدة منها العاطفي، العقلي، والجسدي، تعمل متجانسة متكاملة لبناء شخصية سوية متزنة. ونظراً لأهمية هذه المرحلة وما تمتلكه من مقوّمات أساسية في بناء شخصية الإنسان، كانت محطّ العديد من الدراسات والأبحاث الاجتماعية والنفسية، ذلك أن نمو الأطفال لا يقتصر على الرعاية والعناية الجسدية والمادية فقط، بل يغدو النمو العاطفي ذا أهمية أكبر خاصة في مرحلة الطفولة المبكّرة التي يتعرّض فيها الكثير من الأطفال لحرمان عاطفي يؤثّر سلباً على حياتهم وسلوكياتهم بشكل عام. وتعتبر هذه المرحلة التي تمتد من عامين إلى خمسة أعوام مرحلة هامة في حياة الإنسان يكتسب فيها المهارات الأساسية كما يُحقّق فيها قدراً كبيراً من الاعتماد الذاتي والثقة والتلقائية.

يسعى الأطفال جاهدين وبشكل مستمر لنيل الحب والحنان والحصول على العطف والرأفة، فهم كأغصان غضّة لم تقوَ بعد، هشّة تخشى الكسر والانحناء، قلوب رقيقة توّاقة للأمان والسلام، تبحث باستمرار عن الدفء، وهل من دفء أعظم من حضن الأبوين؟ إن فقدان الطفل للعاطفة داخل منزله أو الشُحّ في تقديمها يجعله عرضة للتعلّق بكل من يمنحه البديل، وهنا تكمن المشكلة!

في لقائي لطفلة صغيرة من مدّة قصيرة، كانت الفتاة ذات الثلاث سنوات ونصف تعاني غضباً عارماً وتوتّراً شديداً دفعها لإتلاف كتابها داخل الصف، ممّا أثار غضب معلمتها، وفي أثناء الحديث مع تلك الطفل كانت عباراتها تسلك المسار ذاته مكرّرة (أنا بحبّن بس هنّن ما عم يحبّوني!). ثم تدخل في مواضيع مختلفة غير مترابطة وتعود مكرّرةً الجملة ذاتها، فهل تبحث تلك الصغيرة عن الحب داخل المدرسة؟ أم عن علاقات اجتماعية مع الأقران بدافع فطرة الاجتماع؟ والجدير بالذكر أن الفراغ العاطفي الذي يقابل في الطرف الآخر بالإشباع العاطفي، له تأثير ضخم على حياة الأفراد النفسية والاجتماعية، ويظهر ذلك جلياً في سلوكهم الفردي سواء في مرحلة الطفولة، الشباب، أو حتى عندما يبلغون ويصبحون رجالاً وسيدات في المجتمع. وتكثر الروايات والقصص عن فتيات وقعن فريسة لمصيدة شاب متمرّس متملّق بالكلام المعسول والعواطف الجيّاشة، وكيف بفتاة كهذه لم تلقَ الرعاية العاطفية والحب والاحتضان بالشكل الأمثل، ألا تقع فريسة سهلة؟ كيف لتلك الفتاة ألا تُدغدغ مشاعرها بكلام رقيق يقود بها إلى علاقات غير مدركة وهي لم تشبع ما بداخلها من حاجات أساسية للعاطفة والحب؟

وفي صلب الحديث عن أهمية الإشباع العاطفي وما يقابله من شُحٍّ أو إهمال، لابدّ لنا من التأكيد على أن المبالغة والمغالاة في ضخ عواطفنا تجاه أطفالنا تسلك مسلك الشُحِّ أيضاً، فنحن نسعى إلى بناء إنسان سوي، ناضج، عالم ومفكّر، لذا لابدّ من الاعتدال فخير الأمور أوسطها، وهنا ليس علينا سوى أن نلفت عناية الأهل إلى ضرورة وأهمية أن يكون هذا الإشباع العاطفي غير مشروط.  أي أن يكون الحب المقدّم للطفل حباً خالصاً لذاته، لأعماله، بمعنى آخر أن يكون الطفل مقبولاً، محبوباً ومرغوباً دون أن نطالبه بعمل أي شيء حتى نحبه، وأن نذكّر أطفالنا أننا نحبهم في كل يوم أكثر ممّا سبق، وأننا مستمرون في محبتهم حتى وإن أخطؤوا واقترفوا المعاصي، فهذا لن ُيقلّل من حجم محبتنا لهم. فنحن وقبل أي تعديل لسلوك وأخطاء أطفالنا علينا أن نذكّرهم بكمّ الحب الذي نُكنّه لهم، وأننا جميعنا نخطئ، فالخطأ يشعرنا بالحزن لكنه لن يقلّل من حبنا لهم.

العدد 1102 - 03/4/2024