الجاحظ في مرآة تشارلز داروين
عبد الرزاق دحنون:
أعتقد، من وجهة نظر شخصية، بأن كتاب (الحيوان) تحفة من تحف الزمان، إذ تجد فيه البحث الواسع في طبائع الحيوان وغرائزه وأحواله وعاداته، وتأثير البيئة في الحيوان والإنسان والشجر. ويعدُّ من أضخم كتب الجاحظ، وهو بمثابة دائرة معارف واسعة الأفق. وسمّاه (الحيوان) لأنه يتتبّع ما في حياة الحيوان من الحجج على الحكمة العجيبة والقدرة النادرة التي وهبتها الطبيعة للمخلوقات، قال: وكانت العادة في كتب الحيوان أن أجعل في كل مصحف من مصاحفها عشر ورقات من مقطّعات الأعراب ونوادر الأشعار، لِما ذكرت من عجبك بذلك، فأحببت أن يكون حظ هذا الكتاب في ذلك أوفر. وإذا كانت الأوائل قد سارت في صغار الكتب هذه السيرة كان هذا التدبير لما طال وكثر أصلح، وما غايتنا إلا أن تستفيدوا خيراً.
تعد فكرة التطور التي استنبطها تشارلز داروين من مشاهداته لعلم الحيوان واحدة من أهم الأفكار العلمية في العصر الحديث. وخاصة ملاحظاته التي سجلها في رحلته المشهورة على ظهر سفينة البيجل الإنكليزية، فقد أبحرت بيجل من بليموث ساوند في 27 كانون الأول (ديسمبر) 1831 تحت قيادة الكابتن روبرت فيتزتروي. وبعد أن كان من المقرر في الأصل أن تستمر الرحلة الاستكشافية لمدة عامين، فقد استمرت ما يقرب من خمسة أعوام، لم تعُد البيجل حتى 2 تشرين الأول (أكتوبر) 1836. فقد أحدث مفهوم تغيّر الأنواع تدريجياً عبر ما يسمى بالانتقاء الطبيعي (الاصطفاء) والتكيّف، ثورة في فهمنا للعالم الحي. وفي كتابه (أصل الأنواع) الذي صدر عام 1859 أوضح داروين أن التطور أدى إلى ظهور أنواع مختلفة من أصل واحد.
ولكن قبل تشارلز داروين بنحو ألف عام، ألّف الجاحظ، واسمه الحقيقي أبو عثمان عمرو بن بحر الكناني البصري، كتابه (الحيوان) عن كيفية تغيّر الحيوان، عبر ما سمّاه أيضاً بالانتقاء الطبيعي. ترك الجاحظ أكثر من مئة وسبعين كتاباً. وساعده على كثرة التأليف امتداد عمره، وانصراف الحكام وأهل الدولة عن استخدامه في قصورهم ودواوينهم لدمامة وجهه، ومرضه الطويل الذي اضطره إلى ملازمة بيته وقطع فراغه بالكتابة والتأليف. ومازال في علته إلى أن وقعت عليه مجلّدات العلم، فقضت عليه في البصرة نهاية سنة 255 من الهجرة. يقول الأستاذ أحمد أمين: نجا الجاحظ لأنه مرن، وقد دفع عنه الشرّ بمرونته.
ولد الجاحظ عام 776 ميلادية في البصرة، جنوب العراق، في الوقت الذي زاد فيه نفوذ المعتزلة، الذين كانوا ينادون بإعمال العقل وتشجيع الفكر الإنساني. وكان ذلك في أوج العصر العباسي، وشهدت حركة الترجمة لكبار الأعمال في الفكر والفلسفة والعلوم، وقد تُرجمت من اليونانية إلى العربية، وكانت البصرة تشهد نقاشات وسجالات فكرية قوية عن العلوم والفلسفة، مما ساهم في تشكيل فكر الجاحظ وساعده على صياغة أفكاره. وعرفت البصرة الورق عن طريق التجار القادمين من الصين، وساعد وجود الورق على نشر الأفكار ونقلها، وبدأ الجاحظ في سن مبكرة من الكتابة عن العديد من القضايا والمواضيع. وتعددت اهتمامات الجاحظ بين الكثير من القضايا، وكان من بينها العلوم والجغرافيا والفلسفة والنحو والأدب. ويعتقد أن الجاحظ ألف نحو مئتي كتاب، لم يبقَ منها إلى عصرنا الحالي إلا نحو ثلثها.
يعد كتاب الحيوان للجاحظ كتابا موسوعيا يقدم معلومات موسعة عن 350 حيوانا، ويقدم فيه الجاحظ أفكارا تحمل تشابهاً كبيراً لنظرية داروين للتطور. ويقول الجاحظ في كتابه إن الحيوانات تشتبك في صراع على البقاء والموارد حتى تتكاثر وحتى لا تفترسها حيوانات أخرى. ويرى أن عوامل بيئية تساعد الكائنات على تطوير سمات جديدة لضمان البقاء، وبهذا تتحول إلى أنواع أخرى. ويرى الجاحظ في كتابه الحيوان أيضا أن الحيوانات التي تبقى تنقل صفاتها وسماتها الناجحة إلى ذريتها.
ويتضح من الكتاب إدراك الجاحظ أن الكائنات والعالم الطبيعي في صراع دائم للبقاء، وأن هناك أنواعاً أقوى من أنواع أخرى. وحتى تضمن البقاء، يجب على الحيوانات أن يكون لديها سمات تساعدها على التنافس على العثور على الطعام، وعلى ألا تكون فريسة لحيوان آخر وعلى أن تتكاثر. وهذا يؤدي إلى تغيّرها من جيل إلى آخر.
وكان لفكر الجاحظ تأثير على الكثير من العلماء المسلمين الذين جاؤوا بعده، فقد قرأ علماء ومفكرون مثل الفارابي والبيروني وابن خلدون أعماله. كما يعرب الباكستاني محمد إقبال عن أهمية الجاحظ وتأثيره عليه في سلسلة من المحاضرات التي نشرت عام 1930، وكتب قائلاً: الجاحظ هو من أوضح التغيير الذي يحدث لحياة الحيوان بسبب الهجرة وتغيير البيئة.