رياح آذار.. علَّها إنذارٌ لغدٍ أفضل!

إيناس ونوس:

بادرنا آذار هذا العام برياحٍ عاتيةٍ أودت بحياة بعض الأشجار المُعمّرة التي قاومت كل ما مرّت به البلاد في السنوات الماضية واستمرت بالتجذّر في الأرض رافعةً رأسها، مُعلنة أنها ستبقى على قيد حياة، مكملاً ما فعلته سابقاته من أشهرٍ قصمت ظهور الجميع بما حملته من معاناةٍ وفقرٍ وقلّة حيلةٍ، في ظلّ الوضع الاقتصادي والمعيشي اليومي المتهالك، إضافةً إلى التدهور القيمي والاجتماعي وانحلال المعايير الأخلاقية المتناسب طرداً مع هذا الوضع المعيشي القاسي جداً. إنه (آذار) بكل رونقه وألقه، جاء هذا العام ليقضي على كل بريقٍ حملته أعياده المعتادة فيما مضى، هذا البريق الذي كان يساعد ولو بأقلِّ قدرٍ في إعطاء جرعة أملٍ لإكمال المضي قدماً.

عن أي أعيادٍ يمكننا التحدّث، أنتحدّث عن عيد الأم؟ في الوقت الذي تقضيه معظم الأمهات – إن لم تكن جميعهن – إمّا مهمومةً، قلقةً، ينهشها الخوف على مستقبلٍ مجهولٍ لأبنائها الذين يلهثون لتأمين أبسط ظروف المعيشة، خجلين من ذواتهم ومن أمهاتهم المكافحات لأنهم لم يعد بمقدورهم أن يتمنّوا لها الخير، أو أن يقدموا لها وردةً اعترافاً بذاك الحمل الذي تنوء به الجبال، أو عاملةً بأكثر من مجال بعيدةً عن أطفالها لا تعرف عنهم شيئاً، وستُفاجأ ذات مساء بأنهم قد كبروا وكأنهم لم يكونوا معها أبداً، أو مودِّعةً إياهم يهيمون على وجوههم في بلاد الله الواسعة بحثاً عن مستقبلهم المجهول في هذه الأرض، أو محرومةً منهم بحكم انفصالها عن زوجٍ حاربها بهم ومنعها من أبسط حقوقها بأن تسمع أعظم كلمة في جميع اللغات، أو مرسلةً لهم ليكونوا حرّاساً لهذا الوطن فجاؤوها جثثاً هامدةً همدت معها الحياة بكل تفاصيلها!؟

أم نتحدّث عن عيد المعلم الذي كان يُنظَر إليه ذات يوم على أنه أنبل إنسانٍ، بينما لم يعد له اليوم عند كثيرين أيّة قيمة تذكر؟ هذا الإنسان الذي حمل أعظم رسالةٍ في الكون بات اليوم من ضمن أولئك المقهورين المكسورين المجبرين على متابعة النهوض كل صباحٍ من أجل يومٍ حافلٍ بـ(قلة الهيبة)، حسبما يسمى باللهجة العامية! فبالرغم من كل الأقوال المأثورة التي نادت بمكانة المعلم عبر التاريخ وترداد الجميع لها غيباً، إلاّ أن الواقع التعليمي المتردي أجبر أعظم المعلمين/ات الذين يحبون مهنتهم ويقدّسونها، على أن يلفظوا أنفاسهم الأخيرة أمام كل ما يتم العمل عليه من اغتيالٍ وعن سابق تصميمٍ لكل ما يمكنه النهوض بهذه المهنة والوصول بها إلى أهدافها السامية الحقيقية، فصرنا نرى المعلمين/ ات اليوم بأسوأ حالٍ، سواء ضمن حرم المؤسسات التعليمية أو خارجها، ولا من مجيب لكل النداءات الصارخة بأن أوقفوا هذا التدهور المودي لهلاك الجميع دون استثناء مهنياً، أخلاقياً وإنسانياً.

أم نتناول عيد المرأة التي لم تعد تمتلك من صفاتها الحقيقية إلاّ التسمية فقط، فقد زجّتها الظروف لأن تكون موجودة في كل المجالات سعياً لتأمين ظروف معيشية أفضل سواء على الصعيد الشخصي أو على الصعيد العام، متناسيةً ذاتها ورغباتها وأحلامها وطموحاتها، بل جعلت البعض للأسف الشديد يوافقن على تسليع أرواحهن وأجسادهن من أجل كسبٍ بسيط.

وكأن رياح آذار هذا العام تعبّر عن واقعنا القاسي والمتهالك، وتقول لنا: (الأقوى من يمكنه الصمود بوجه قوتي وجبروتي، في حين لن يجد الأضعف مكاناً له بعد اليوم). لكن، ورغم كل ما يحدث، سنبقى نتمنى الخير والحب والبقاء شمساً منيرةً في حياتنا لهذه الأم التي لم تكلّ ولم تتراجع عن متابعة حمل الأحمال والأعباء يومياً فوق ظهرها في الوقت الذي تبحث فيه بكل لحظة عمّا يمكنها أن تكفكف به دمعها المدرار في الخفاء، على أمل أن يخفّ الحمل ذات صباح!، وسنبقى نسعى ونصرخ بأن تعود للمعلم/ ة قدسيته/ا، ولهذه المهنة بهاءها، ليكون كل المجتمع حقيقةً بألف خير.. وسنبقى نقول لتلك المرأة المغيّبة داخل كلٍّ منا: (ستكونين بخير ذات يوم!)، فمهما تطاولت الغيوم، وهدرت الرياح، لا بدّ لشمس آذار أن تعود لبريقها الجميل الدافئ الذي سيجري كالدم في عروقنا مُجَدِّدَاَ رغبتنا في الحياة.

العدد 1104 - 24/4/2024