العالم الذي يتاجر

يونس صالح:

كان الإنسان الأول ينتج ما يحتاج، يقدم لنفسه الطعام والشراب والملبس والمأوى ووسيلة الانتقال من الطبيعة المحيطة به، ولكن مع تطور البشرية وظهور ما يُعرف بالتخصص وابتكار فنون إنتاجية مختلفة، أصبح التبادل ضرورة، وأصبحت التجارة مهنة، وأصبحت النقود- في مرحلة متقدمة- بديلاً للمقايضة، لتحديد القيمة.

حدث ذلك على مر التاريخ، وخلال رحلة طويلة قطعتها البشرية لم تفقد التجارة معناها: كوسيلة حاجة ما، أو تعبير عن فائض في الإنتاج، أو الاثنين معاً، وهي القاعدة الأساسية.

يصدق ذلك على الأفراد والجماعات والدول، فالتبادل يعكس في النهاية موقف الإنتاج وموقف الاستهلاك، والتعامل مع الغير يسبقه تعامل مع الذات، يحدد الموقف الاقتصادي لهذه الدولة أو تلك، أو هذه الجماعة أو تلك.

وإذا راجعنا أرقام التجارة العالمية، فسوف نجد الترجمة الدقيقة لذلك.

كانت صادرات العالم عام 1981، ووفقاً لأرقام (الجات): 1970 مليار دولار، احتلت الدول الصناعية منها نصيب الأسد: 1225 مليار دولار، واحتلت المجموعات الدولية الأخرى من عالم ثالث وغيره النصيب الأقل، والشيء نفسه على مستوى الواردات التي بلغت في ذلك العام 2030 مليار دولار، من بينها 1315 مليار للدول الصناعية وحدها.

أما في عام 2016 فقد زادت هذه الأرقام أضعافاً، كما أن النسب اختلت بصورة أكبر لصالح الدول الصناعية التي لا يشكل سكانها أكثر من 15٫6 بالمئة من السكان، وتستأثر وحدها بأكثر من 70٪ من الصادرات، والشيء نفسه من الواردات.

وبصيغة أخرى فإن أقل من خمس سكان العالم يستأثرون بأكثر من ثلثي تجارته على وجه التقريب.

واستطراداً للمعنى فإنه يمكن القول: التجارة تعبير عن الإنتاج- إن ذلك الجزء من العالم يقدم الجزء الأعظم من الإنتاج، بينما يقدم الجزء الأعظم من السكان، وهم بقية العالم، الجزء الأقل.

اللاتوازن إذاً هو القاعدة السائدة في العالم، والتفسير لأن إنتاجية الفرد في العالم الرأسمالي الصناعي تزيد عدة أضعاف عن إنتاجية الفرد في العالم النامي. قد تدخل بعض العوامل التي تجعل المقارنة غير دقيقة، فالعالم الصناعي يفرض شروطه وأسعاره، والعالم النامي يخضع.. ويدفع.. ويتبع. السلع الصناعية مرتفعة دائماً، والسلع الأولية منخفضة السعر في أغلب الأحيان، والفرق بين الاثنتين يمثل الجهد البشري الذي يحيل الخامات إلى سلع مصنوعة.. ولكن وهنا أيضاً يختلف سعر العمل في الدول الصناعية عن غيرها، وإذا كانت التكنولوجيا الحديثة ووفرة الموارد قد حابت إنسان العالم الصناعي، فإن النظام الاقتصادي العالمي وسيطرة الأقوياء وسطوة النظام الرأسمالي جعلت لوحدة العمل في الشمال، ثمناً آخر غير الذي يتقاضاه أبناء الجنوب، وربما للإنتاج نفسه أو الإنتاجية نفسها.

وإذا استرسلنا في دراسة اللاتوازن، فسوف نقف على حقيقة ساطعة وهي استمرار عجز الدول النامية، الذي بلغ أرقاماً فلكية حالياً، وهو ما يزيد مديوينة هذه الدول عاماً بعد عام.

ويعتقد الغرب- وتتبنى المنظمات الدولية هذا المدخل- أن علاج الخلل في التجارة يتحقق بحرية التجارة، فعدما يزيد التدفق السلعي، تنشط مراكز الإنتاج وتزيد نسب النمو.

ولكن..

بالتجربة، لم يستطع الغرب أن يرفع كل الحواجز، وأن يحرر كل التجارة.

وبالتجربة: لم يستطع العالم النامي أن يزيد من نسبة نموه عن طريق انفتاح تجاري، فقد قلّت نسب النمو، وزاد الاعتماد على الخارج خلال تجربته في تحرير التجارة.

على أي حال، ومن خلال دعوة الحرية- وغيرها من عوامل- حقق العالم الرأسمالي الصناعي هذا التفوق الذي تعكسه أرقام التجارة، وأصبحت المشكلة في سلة البلدان النامية: ماذا تختار لتصلح الميزان؟

 

العدد 1104 - 24/4/2024