الأسرة العربية وتحديات الاغتراب

إيمان أحمد ونوس:

لا شكّ أن حركة النزوح المفاجئة والقسرية للعديد من الأُسر العربية بسبب الحروب والنزاعات التي شهدتها بعض البلدان خلال العقد المنصرم، قد جعلت غالبية هذه الأُسر في مواجهة تحديات جديدة لم يتمّ الاستعداد لها سواء من حيث امتلاك لغة التواصل في المجتمعات الجديدة، أو من حيث التعايش والاندماج في تلك المجتمعات، أو بسبب اختلاف نمط الحياة الاجتماعية وتقاليدها وقوانينها السائدة في البلدان الجديدة، بحكم اختلاف الثقافات والعادات والقيم الاجتماعية والدينية والقانونية، وهذا يعود لأسباب مختلفة ومُتعدّدة يمكننا استعراضها وفقاً لأهميتها والتحديات التي تفرضها وهي:

أولاً_ مسألة اختلاف اللغة، العنصر الأهم والأساسي في مسألة العيش والتفاهم مع المحيط تلبية لأبسط الاحتياجات. لقد تعرّضت غالبية الأُسر لمشكلة اللغة والتي فرضت الدول المُضيفة تعلّمها على الجميع ضمن مدّة زمنية مُحدّدة، وهذا ما ترك الكثيرين (لاسيما كبار السن) ممّن لا قدرة أو لا رغبة لهم بتعلّمها في خضم ّمعاناة التفاهم مع المحيط خلال الخروج لتلبية بعض الاحتياجات التي تتطلّب تواصلاً مباشراً مع الآخر من جهة، ومواجهة القوانين التي لا تسمح بالعمل إلاّ بعد تعلّمها من جهة أخرى، ما خلّف آثاره السلبية على هؤلاء لأنهم باتوا يُشكلون عالة على أفراد الأسرة ذاتها، وعلى الدولة بحكم عدم تمكّنهم من العمل في ظلّ القوانين السائدة.

ثانياً_ اختلاف نمط الحياة الاجتماعية التي تركت البعض من اللاجئين في حالة اغتراب وعزلة، فكانت مشكلة الاندماج من المشاكل الأساسية التي عرقلت حياة البعض، ودفعت بالبعض الآخر للعودة إلى بلادهم، خاصّة أولئك الذين يتشبثون بثقافة مجتمعاتهم وقيمها ويريدون إمّا فرضها في المجتمعات الجديدة، أو رفض قيم تلك المجتمعات جملة وتفصيلاً، لاسيما فيما يخص تربية الأبناء وحثّهم على التشبّث بالقيم والتقاليد والأفكار التي حملوها معهم من بلدانهم، وهنا وجدنا من خلال ما سمعناه من أصدقاء أو أقرباء وجيران هاجروا أن غالبية الأبناء رفضوا ضمناً أو مجاهرة الانصياع لما يريده الآباء، ذلك أنهم وجدوا في تلك المجتمعات ما يُلبي طموحهم في التغيير والحرية الشخصية والاستقلالية، لاسيما أنهم الأقدر على امتلاك اللغة التي من خلالها يساعدون الأهل في تلبية احتياجاتهم اليومية، إضافة إلى مرونة التعامل مع التقنيات والثقافات الجديدة التي تناسب ميولهم وغريزتهم في التحرّر من سطوة الأهل.

ثالثاً_ سيادة القانون وخاصة الذي يحمي الأطفال والنساء من العنف الأسري المُسيطر في المجتمعات العربية، وهنا كانت المواجهة الأصعب والأشدُّ وطأة على الآباء والأزواج كلٌ في موقعه، وإن كانت ظاهرة تحرّر غالبية النساء/ الزوجات من سطوة الأزواج وتعنيفهم هي الأبرز والأكثر تحدّياً للقيم والعادات المتوارثة والمحمولة إلى بلاد الاغتراب، فلقد سعت الكثير من النساء للتحرّر والخلاص من الهيمنة الذكورية المدعومة من القوانين والتشريعات، وكذلك القيم والتقاليد المجتمعية والدينية التي كانت مفروضة عليها في بلدها، وأقصتها إلى حدٍّ ما عن إنسانيتها وفاعليتها في المجتمع والحياة، بل وسجنتها في شرنقة من المُحرّمات والعيوب إن حاولت التحرّر من سطوة تلك القيم التي تمنع عنها الزواج بإرادة منفردة، أو الطلاق في حال عدم التوافق والانسجام أو العنف، وكذلك العمل وحتى العلم …الخ. ولهذا، ولأن قوانين البلاد الجديدة تحمي النساء من العنف، وتحرص على حقوقهن كافّة، فقد وجدت العديد من النساء/ الزوجات في المجتمعات الجديدة ملاذاً آمناً من العنف والتمييز، فلجأن إلى الطلاق الذي برز كظاهرة وتحدٍّ جديد في حياة الأُسر المهاجرة، لاسيما في حال احتضان الأم للأطفال، ويجد الأب/ الزوج نفسه وحيداً وأعزل من كل موروثه الذي تحصّن به لعقود في بلاده الأصلية. ولكن علينا ألاّ نُغفل سلبية العديد من الأمهات اللواتي سعين للطلاق رغبة بالعيش بعيداً عن مسؤوليات الأسرة والأطفال، وبحثاً عن حريّة مشوّهة، متخلّيات عن مسؤولياتهن في احتضان وتربية الأطفال الذين همّ بأمس الحاجة لرعايتهن لاسيما في أعمار صغيرة، وهذا أيضاً ينطبق على العديد من الأزواج/ الآباء الذين ما إن وطئت أقدامهم البلاد الجديدة حتى تخلّوا عن مسؤولياتهم الأسرية والزوجية وتحرّروا منها بسرعة غير متوقّعة، ما ترك العديد من الزوجات خاصة من لم تحظَ بالهجرة في مواجهة مسؤوليات مضاعفة وزمنٍ صعب وقاسي لا يرحم أحد.

هي بعض التحدّيات التي واجهت الأسرة العربية في بلدان الاغتراب واللجوء، ولا شكّ أنها تحتاج للكثير من البحث والتقصّي والدراسة، وكذلك إعادة النظر في الكثير من المسائل التربوية بالنسبة للأبناء، وللعلاقة والحياة الزوجية والأسرية بالنسبة للآباء، مثلما تحتاج لدراسة الواقع الاجتماعي والقانوني في البلدان الأصلية، وفيه كثير مما يحتاج للتغيير أو التعديل ليتناسب والتطورات التي طالت الجميع بلا استثناء.  

العدد 1102 - 03/4/2024