الهجرة وما تحمله معها من مشاعر

وعد حسون نصر:

 مشاعر تارةً إيجابية تبعث في النفس السعادة والفرح والرغبة لمعرفة المجهول والخوض في مغامرته، وتارةً سلبية تبعث في النفس كآبتها وحزنها وشوقها وحنينها للماضي، متعبة من الحاضر مفعمة بالحنين، وفي الحالتين، سواء الشوق والحنين لعبير الماضي، أو الاندفاع والمغامرة والرغبة بالقفز للمجهول، هناك مشاعر مدفونة تنعكس بخلجاتها على المهاجر وعلى من ينتظر عودته. فالمهاجر لا يدري ما ينتظره، مقيم في غربته بمفرده، بعيداً عن غطاء الأم المفعم بالدفء، وطعامها المشبع بالكرم، ودعائها المغمور بالرضا وطلب الرزق والنجاح، ونظراتها المليئة بالحرص والخوف والقلق والفرح، وصوتها الصباحي المحمّل بالعبارات الجميلة حين تناديه ليستيقظ من النوم لعمله أو مدرسته أو جامعته، بعيداً عن الزوجة والعتاب والحب ومشاجرات صباحية ومسائية، وبعدها فنجان قهوة يُعيد الشوق للروح بفيض جديد من الذكريات، بعيداً عن فلذات كبده ومشاكساتهم وخلافاتهم، وعتاب وألعاب وأهازيج وضحكات وأفراح تنعش روحه بعد شقاء نهار طويل من العمل، بعيداً عن جلسات السمر مع الأصدقاء والإخوة، بعيداً عن ضجيج الحارة صباحاً ومساءً، ونكات الجيران وأصوات الأولاد عند اللعب والباعة الجوّالين. تفاصيل كثيرة تجول في رأس المهاجر ما إن يجلس بمفرده في غرفته، أو يخلد في سريره للنوم، فتجول في رأسه، تظهر على وسادته ممزوجة بألم الفراق وشغف الحنين، هذه المشاعر لا تختلف عن من ينتظر المهاجر في الوطن ينتظر عودته، ينتظر ملامحه، عناقه، ضحكاته، رائحة العطر، بعثرة الملابس في أرجاء غرفته، وحتى صوت جوّاله، ضجيج الأغاني التي يستمع إليها، تفاصيل كثيرة ينتظرها الأهل مع عودة ابنهم المهاجر، ولا تختلف هذه التفاصيل عند الزوجة، بل هي أشدُّ وجعاً، لأنها تنتظر شريكاً يحمل معه همسات الليل المغموس بالحب والفضفضة، زوجاً يحمل معه تخفيف حمل المسؤولية من تأمين المستلزمات وخاصة أننا لا نستطيع في هذا المجتمع أن نؤمّن كل شيء بمفردنا لضيق الحال وفقدان الكثير من الموارد بسبب الحرب والحصار والجائحة والغلاء، فنحن بحاجة لنكون معاً زوجين يساند كلٌّ منا الآخر، فالزوجة أكثر شخص تتضرّر مع أطفالها، بل هي المُتضرّر الأكبر من هجرة الزوج، لأن الأسرة لا تكتمل إلاّ  بمجدافين ليستطيع المركب أن يسير في بحر الحياة دون أن يغرق. والطفل أليس له الحق بعناق والده قبل النوم وسماع الروايات والحكايات الجميلة التي تُهدهد فكره فتغفو عينه متلذذةً بطيب الكلام ودفء العناق، هذا الطفل ألا يحق له كغيره أن يصحو على صوت أبيه وهو يُعدُّ له حقيبته المدرسية، وبعدها يشبك يده بيده ليصل العناق إلى باب مدرسته مع قبلة وداع خفيفة على خدّه تخبره أنه سيأخذ الأخرى عند العودة من المدرسة.

نعم، ربما يجهل البعض هذه التفاصيل التي ترافق الهجرة سواء عند المهاجر أو من ينتظر عودته في الوطن، لكنها رغم بساطتها متشابكة في ثنايا الروح وتلافيف الفكر، تظهر في حنين المهاجر ودعوات أحبائه، لتكون فيض روح يزيد الغربة غربةً أكانت على أرض الوطن أو في بلاد المهجر، وهنا لا شفاء للروح إلاّ بعناق اللقاء ليكتمل الشمل من جديد، ولا فرق أين كان هذا العناق على أرض الوطن أو خارج أسواره، المهم أن يحلّق الطائر بجناحيه ورأسه الذي هو الأولاد، فتكتمل الروح بجسد واحد محطمةً جدار الفراق ومكسّرة رهبة الهجرة، فقد التأم شملنا بعد الشتات.

العدد 1104 - 24/4/2024